بين دفتي غياب

مقال الاثنين 5-3-2018
النص الأصلي
بين دفتي غياب
أمضى العمر جالساً في جزيرته لا يقطع بحر الإسفلت الا نادراً ، متوارياً في “كشكه” عن فوضى العيش ،ونميمة السياسة ، وازدحام الهموم على شارع الحياة ، كان “روبنسون كروزو” الثقافة، يضرب سياجاً من الصمت على عالمه الخاص، مشغول بترتيب كتبه على الرصيف وفوق الرفوف ، وسعيد أنه الناجي الوحيد من هذا الضنك ،ولا يفكّر أبداً ببناء سفينته نحو الإبحار..
هشام المعايطة وريث مكتبة “خزانة الجاحظ”..وحارس التاريخ العمّاني القديم ..رحل ، تاركاً خلفه كرسيه البسيط المُناظر لبنايات عمّان القديمة ، وقطّته التي كانت تقفز فوق الكتب لتتكوّر قربه ، وعشرات ألالاف من يتامى المجلّدات..رحل هشام واحزن كل “الحجّاج” الذين كانوا يطوفون بــ”كشكه” كل يوم يستعيرون الكتب او يستبدلونها أو يلتقطون صوراً معه لأنه ورّاق عمان القديم والمتواضع والنديم القريب لكل من يريدون ان يضعوا أرجلهم في “كار الأدب”..
**
أنا لا أؤمن بالتطير ولا بالتشاؤم ، لكن عندما احترق مستودع مكتبة الجاحظ قبل شهر تقريباً واستحال أكثر من عشرة الآف كتاب إلى رماد ،وذابت العناوين وعرق المؤلفين في فم اللهب ، وضعت يدي على قلبي ، لم أكن أفكّر برحيل هشام المعايطة وقتها ، كان خوفي على عمان نفسها ..بالأمس عندما قرأت نعي الراحل هشام المعايطة عرفت أن الكتب كانت فِراش رحيله، وان ما سبقه إلى الغياب من عناوين نادرة وكتب قيمه ما هي الا “حور عينه” التي أبت الا أن تسبقه إلى الرحيل..
محزن منظر الكشك الذي يعجّ بالحياة كل يوم، أن يلف “بستار” الموت ويواري جثامين الكتب عن قرّائها ، وان لا تجد الرفوف من يريح ازدحامها ، والحبر الوفي سيسيل دمعاً أسوداً من بين الصفحات ونبرره نحن العاديون أنه “سوء طباعة”..وتلك القطة التي أتلفت ألاف المجلدات وجلست في حضن هشام فلم ينهرها ولم يطردها بل كافأها بأصابعه تهدئ من خوفها عندما لاحقتها السنة اللهب..ستفتقد هشام وستفتقد “فروته” ولحيته الكثة ورائحة دخانه الذي كان يشعرها أن ما زال في البشر من يحبّون الحياة..
رحل هشام الجاحظ مزفوفاً بالآف العناوين وآلاف المؤلفين يمشون خلفه ويحملونه على أكفّ الشكر والامتنان..رحل هشام مكفّناً برائحة الورق ليوارى بين دفتي غياب..لأنه سادن الثقافة ولأنه وجه الكتاب..

احمد حسن الزعبي
ahmedalzoubi@hotmail.com

اظهر المزيد

‫2 تعليقات

  1. رحمة الله تتغمدك يا رمز الكتاب و رمز الاصاله و الوفاء .. كان نعم الصديق و الأخ الصدوق .. و الله لفراقه في القلب غصّه .. الى جنات الخلد ان شاء الله

    أبو عبدالله .. أنت أصيل و صاحب قلم حر و تكتب بروحك قبل عقلك .. شكرا لك

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى