اﻹنتظار المضني / رويدة العبادي

اﻹنتظار المضني
لملمت أحزانها واحتوت آلامها التي اعتادت على مداواتها بالدعاء واﻹبتهالات إلى الله الذي يرأف بقلوب اﻷمهات.طوت سنوات وسنوات ..وكل يوم يمر يقربها أكثر وأكثر من حلمها. لم تعد تحسب عمرها بل أصبحت السنين والشهور واﻷيام مجرد أرقام ترقبها لتطوي صفحة كل يوم بيومه وكل ساعة بساعتها. فهي تريد لهذه السنوات أن تنقضي وحسب .تراكمت التنهدات والحشرجات وجفت كثير من الدموع التي دارتها أوتلك التي سالت عنوة من مآقيها فنزلت حارة وحارقة.ولكن هناك ما ترنو إليه بعين اﻷمل ما يجعل كل الدمع أمر يسير. وهناك في أفق الحلم والخيال فجر يلوح لها كضوء في نهاية نفق طويل. لا بد من تجاوزه بالصبر واﻷمل.
كبر الصبر حتى أصبح جبارا يفتت ويبدد الوقت الذي أصبح فضولا لا حاجة لها به غير مضي اﻷيام حثيثا نحو غدها المنشود. فكل شيء محتمل طالما أن الوقت يمضي ويطوي معه السنوات.وهكذا مرت السنوات بثقلها على كاهل أعياه اﻹنتظار.
واقترب اليوم الموعود …وتعلقت العثون وشخصت بانتظار القادم. ها قد أزف الوقت ، ووارت برباطة جأشها وتماسكها عشرون عاما ؛ بل عشرون قرنا بمقاييسيها ،في مقبرة الصبر. تلك كانت حساباتها هي فما هي حسابات القدر؟! هل سيأن اﻷوان هذا اليوم ؟!
تكاثفت كل المشاعر وتراكمت وارتفعت وتيرتها إلى حد التسامي وازداد وجيب القلب . واجتمع اﻷهل والعشيرة والمحبون كل يرقب اﻵتي ويستحثه . وكان هاجس الجميع حماية مسار رحلة ولدها إلى حضن أمه. فهم في وجل عليه وعلى قلبها… يريدون أن يحموا لحظة إنتظرتها وانتظروها عشرون عاما عجافا. وكل تطلعاتهم اليوم تنحصر في تحقيق ما طال انتظاره ؛ طلته عليها التي حلمت بها مليون مرة أو يزيد. وها هو يقترب منها جسدا وروحا . بشروها بقدومه فرقص قلبها بين ضلوعها ودخلوا به على أمه الرؤوم.

نظرت صوب بابها ..يا لهذه اﻷعتاب كم انتظرت خطاك ! والتقت عيناهما ،تمسحت نظراته بجفونها وارتمت على أعتاب عينيها ثم طافت بهما وغسلت كل أدران السنين. تهلل القلب فرحا ،ولفت بها اﻷرض ودارت وطار قلبها إلى السموات الفرح احتفاء بقدومه .وما بين رحلة القلب الذي حلق طربا وطواف العيون التي احتضنت عيونه، وارتمائه بين يديها لاحتضانها ، فقد جسمها توازن انفعالاته. فكيف بإمكانها اﻹمساك باللحظة والتشبث بها بالتزامن مع التحليق عاليا! لذا غابت هنيهات عن الوجود. لا يمكن لهذه الرحلة الخارقة لرتم الحياة أن تجعلها ضمن مجال أو حدود جاذبية الأرض. لذا طار بها الفرح بسرعة اﻹفلات من عقال وعيها لتسترده بعد لحظات. تلقفها طفلها الذي أنضجته السنوات وأحالت سواد شعره إلى بياض بين ذراعيه اللتين سكنتا روحها وفكرها ووقفت عمرها عند حدودهما. ضمها إليه وأودع في حضنها قلبه .وها قد دنت لحظة الإرواء التي أطفأت ظمأ اﻹنتظار. وها هي تنعم بدفء احتملت في سبيله عقدين من البرد .
فدعوها أيتها السيدات ويا سادة تحتفل بثمار صبرها بسلام … أيامن جردتم أقلامكم وسللتم حروفكم بوجه فرحها :ردوا عن صفاء نفسها فذلكات بغيضة ليس هذا مكان موطأها ولا مقامها. هنا مقام اﻷمهات الصابرات. وليس مقام أصحاب اﻷيديولوجيات التي تنتقي مبادئها بأطراف شوكة المصالح وسكين الفرص. دعوها تحيا نعيم القرب الذي أرقها وقرح جفنيها. هي ليست معنية بتسجيل مواقف ولا التباهي بأفكار تقدمية . ولم يخطر التشدق بحقوق الإنسان لها بخاطر رغم أهوال ما عانت. وإنما تريد فقط حقها في احتضان إبن افتقدت وجوده بجانبها ووسط عائلته عشرون عاما ، وذاقت حسرات ألف مناسبة مرت، بحثت فيها عنه بين الوجوه فلم تجده وتعلقت عيناها بالفراغ القاتل الممض.
كفوا أقلامكم وآراءكم عن مس قلبها المعنى بأذى ،ومارسوا تنظيركم بعيدا عن قلوب اﻷمهات.

اظهر المزيد

‫2 تعليقات

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى