امرأة بنكهة وطني !!!!! / خلود رشيد المومني

امرأة بنكهة وطني !!!!!

قد يقول البعض أن الوفاء عملة نادرة ما عاد من الممكن العثور عليها . ..وأن المواقف الرجولية حكر على الرجال دون النساء . .وأن الحب مكتنز بين صفحات الدفاتر الصفراء في صناديق الجدة على سدة البيت العتيق. .
فلو كان .
..ما الذي يدفع الأم بالسهر والتعب والجري هنا وهناك لتؤمن لأبنائها حياة مغمسة بالحب ؟!
ما الذي يدفع بالأب إلى وظيفتين وثلاث ليدفع لابنه رسومه ويكفي احتياجاته ؟ !
ما الذي يجعلنا نتجاوز عن أخطاء من نحب في حقنا واهمالهم لنا ونسيانهم لوجودنا ولا نتذكر لهم في حالهم هذا إلا كل جميل لننسى ونتجاوز ونبقي عليهم ؟ !
نبقى نحتفظ بسؤال يتوه. …يقاوم. ..يريد أن يعانق الشفاه. ..ونعيده إلى مكانه يغص به الحلق. ..وتختنق العين به دمعة تبقى حبيسة لأن الإجابة تعني الرحيل. ..ومع أننا قرأنا الإجابات سابقا لكننا نرفض أن نفهم تلك العناوين العريضة.
نرفض أن نصدق أننا مع كل هذا الحب لم تقدر مشاعرنا. ..لم تقابل بنفس الروح والنبض .
ونبقي نحيا على أمل أن يأتي يوم ويصبح لها قيمة.
ويبقى.
الحب هالحرفين مش اكثر
اللي بيطلعوا قد الدني وأكبر.
وعليهم تعمر أساس الكون.
أي نبي بالحب مابشر ؟؟!!!
ذلك الحب الذي دفعها. ..تلك الرجل بهيئة امرأة ليكون لي معها حكاية. ..يغيب الزمن ويمر الدهر عليها وتبقى كحكايات ماقبل النوم نسردها لأطفالنا لنعلمهم من خلالها كل قيمة للإنسان والانتماء والحب. !!!

كانت تلك السنة سنة تعييني معلمة في تربية العقبة. ..وكنت حينها قد باشرت دراسة الماجستير في جامعة اليرموك لسنة ونصف وتبقى علي ست ساعات ورسالة.
كان من المستحيل أن أتابع دوامي كطالبة ودوامي كمعلمة في نفس الوقت لبعد المسافة.
كان علي أن أختار العمل وأقوم بتأجيل الدراسة عام واحد حتى أتمكن من الحصول على نقل المكان إلى الشمال.
قامت زميلاتي بنصيحتي بأن أقوم بنقل الدراسة إلى جامعة مؤته. ..حينها سأتمكن من مواصلة الاثنتين معا.
لم يكن من وسائل اتصال ممكنه إلا السفر الى الكرك وهذا كان في عام 1990.
حملت نفسي بلهفة وفرح في الصباح الباكر متجهة إلى الكرك لأسال عن إمكانية التحويل وأمور أخرى.
ولأول مرة في حياتي سأرى الكرك. .لكن من يسأل لن يتوه هذه نظرية رائعة.
وصلتها عند الظهيرة. ..وسألت عن آلية وصولي إلى الجامعة. .أبدى أهل الكرك في مجمع الباصات الشهامة المعروفة فيهم إلى اليوم وليوم الدين.
أوصلوني إلى الجامعة.
كانت يوم الخميس آخر الاسبوع. ..المسجل الذي يمكن افادتي غادر. ….ومساعده غادر. ..لم اتوصل إلى نتيجة.
كنت أعلم أن أحدهم مومني يعمل دكتور في كلية الهندسة …ذهبت اليها.
كانت جالسة هناك على مكتبها. .برائحة شيح الكرك ولون قمح سهول الوطن. ..بابتسامتها التي تشبه ابتسامة نهر اليرموك عندما يغدق خيره على أرض اربد. ..ونبرة صوت عود حزين تشجي انغامه القلب وترد الروح.
أهلا وسهلا بك. ..بنبرة حارة وكأنها تعرفني منذ دهر. !!!!

جلست أمامها بذلك الارتياح الذي لم أنسه يوما. .بعد عناء سفر يوم طويل وقاربت الساعة على الرابعة مساء.
شرحت لها قضيتي. ..وقالت :
أن قريبي غادر باكرا ولا أظنه سيحضر. ..والآن ما هي مخططاتك. ؟!
سأعود حتما إلى العقبة لا مخططات أخرى فأنا لا أعرف أحدا هنا.
قالت انتظري سأوصلك معي إلى المجمع مع أنني أشك أنك ستجدين مواصلات في هذا الوقت إلى العقبة.
أنهت أعمالها إلى آخر دقيقة من وقتها. ..ورافقتها إلى مجمع الباصات.
كان المجمع شبه خرب. .لا باص ولا سيارة ولا حتى بشر.
وبدأ الليل يزحف إلى الكون شيئا فشيئا. . وما كان مني في تلك اللحظة إلا أن انفلت بالبكاء بصمت دون حتى التعبير بكلمة.
نظرت إلي وقالت :
جففي دموعك سأغضب منك. .لم البكاء وانت بين أهلك.؟! أنت لست غريبة هنا.
انظري حولك. ..أترين هذه الجبال التي تحيط بنا.؟! كلها ملكك.
أترين هذه المنازل هناك؟ ! كلها بيتك! !
لن أتركك ثقي بي. ..تعالي معي ستقضين الليلة عند أهلي وأنا معك.
لم تسمح لي حتى بأن اغترب قليلا. ..سلبت مني كل مشاعر الغربة في كلمات أخذت من وقتها ثوان. ..وأخذت مني العمر كله ولم أستطع نسيان تلك الكلمات. .أو حتى أن أشعر إلى يومي هذا بأن الكرك ليست بلدتي ومسقط قلبي……. وبأن أهلها ليسوا أهلي. …..وأن الوطن كله عندي الكرك.
ونظرا لأني منذ رأيتها رأيت فيها كل الوطن بسهوله وجباله ومياهه …ووروده واعشابه وسنابله. …وافقت دون تردد.
رافقتها إلى الشهابية. ..لأجد مفاجأة في منزل أهلها! !!!

مقالات ذات صلة

وصلنا البيت وكانت طوال الطريق تحدثني عن الكرك وأهلها والجامعة وعملها. ..نزلت من سيارتها. .استقبلتني والدتها استقبالا حارا وكأني أحد أفراد العائلة الغائبين. ….
لم تدعني لحظة أشعر بعدم الارتياح أو الإحراج وشعرت بحرارة ودفء الحب التي كنت افتقدها أحيانا حتى عند أمي.
وغابت خوله عن نظري فترة لا أعرف أين ذهبت. .
وعادت وهي تحمل عشاء فاخرا المنسف الكركي المميز بمذاق وحرارة المودة والكرم. مزين بالحب والعطاء. .
اعتذرت بداية ولكنها قالت بلهجة ساخرة :
لا تقنعيني أنك تناولت أي طعام اليوم. .أقسم أنك بلا فطور. .ومع سفرك منذ الفجر إلى الآن لابد أنك بحاجة إلى كل هذا الطعام ليسد رمقك. …كانت محقه فأنا فعلا لم أتناول شيئا منذ الفجر.
وأكلت بشهية لم أعهد نفسي بها من قبل.
وبعد أن أنهيت الطعام وارتحت.
أحضرت لي أحد اثوابها لارتديه. .قالت :
خشيت أن أخبرك أننا لدينا سهرة عرس الليلة فترفضي الحضور.
ستشاركين معنا فرحتنا وسهرتنا ..كان زفاف إحدى شقيقاتها أو إخوتها لم أعد أذكر إلا تلك الإنسانة بملامح ملاك هبط علي في جامعة مؤته ولم اهبط أنا إليه.
ولم أعد أذكر إلا ذلك الحنان الذي مسح دموعي في مجمع الباصات وربت على كتفي ليمنحني كل أمان لم أعرفه قبلا.
لم أعد أذكر إلا لون سنابل القمح ورائحة الشيح وعطاء اليرموك ودحنون عجلون. ..لم أعد أذكر إلا أنني في وطني ومع أهلي! !!

وسارت الحافلة إلى العقبة لاكتشف أني نسيت أخذ رقم هاتفها لأتابع المهمة التي تعهدت بها وهي محاولة تحويل دراستي إلى مؤته. …ولكن لابأس سأصل إليها فرقم الجامعة معروف.
عدت إلى العقبة وتابعت المسير إلى الديسة. .وكانت أيام ثلاثة لاتنسى من عمري.
نسيت موضوع التحويل ولم أتابعه….وكل ماكنت أفكر فيه هو رغبتي بالعودة إلى الكرك لرؤية خولة. ..لم تغب عني ليلة. لا صورتها ولا ابتسامتها واستقبالها.
وما أن تذكر الكرك على مسمعي إلا وتقفز أمامي صورتها وحديثها ونكهة الوطن في بيتها

مرت الاعوام كالسراب… وكأن الهواء ما زال يعبق برائحة الكرك وطعمها…
وكأن خولة مازالت تطرح سلامها وحديثها عن معنى الغربة واللقاء. .وطعم المودة والوفاء .
عن الحب والانتماء. ..والكرم ومعنى الابتسامة والفرق بينها وبين الجفاء.

كيف يمضي العمر والسنون ولا يمحى شيئ أبدا … بأدق التفاصيل التي رسخت في القلب حتى وإن كنت صبية بعمر زهر الدحنون في عجلون ونشوة لقائه مع شيح الكرك لا أعلم بعد ما الجميل في الأثواب المخملية والملامح الحادة. وكأنها في الأمس فقط كانت تودعني في مجمع الباصات وتقول لي آخر كلمة سمعتها منها (لا اله الا الله) وأرد عليها (محمد رسول الله)… وأمضي… في مشهد لست اعلم كم من السنوات غصت بأدمعها عند ذكرها … لكنني اعتقد ان الكثير الكثير منها فعل.
كم من الألم نطويه في أرواحنا … ونتمنى منه لو يتركنا بلا عودة ويترك فراغا مكانه في ذاكرتنا… وفي نفس الوقت… كم من الجمال والسعادة ولحظات لا تنسى تطويها الذاكرة في الروح… وكم من الحزن يجتاح الروح حين تغيب جزئيات الذاكرة… وصورها المعلقة على جدران القلب.

تكفي لحظة واحدة… لتعود أمسيات الأرق الجميل ورائحة النار… وعطر المكان والزمان… ويعود كل شيء يملأ الروح بمنتهى العمق والصدق.. آه ما أقسى الانسان !!!!
… لا اعتقد أن بين كل الوحوش ما هو أقسى من الإنسان … كيف يمحو ذاكرته ويزورها… كيف يحطم اللوحات المعلقة في القلب ويسحق ساكنيها… بلحظة… ودون أي تردد.

أما أنا … فإنني سعيدة بذاكرتي …
أساس أوجاعي… ذاكرتي التي لا يخبو ولا يمحى منها شيء أبدا …
أساس الجمال والسعادة… بكل التفاصيل الصغيرة… عبر الزمان والمكان والعطر… كل شيء ينبض في قلبي… حكايا من عطر وجمال… وصمت على كل ما عدا ذلك.

خولة الشمايله ( أم نسيم )
افترق الرفيقان… الجسد للتراب والروح الى خالقها…
رحمك الله…. والوداع…
لك في القلب مكان قائم إلى الأبد.. ..يا نكهة الوطن في أنثى كركيه !!!!!

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى