النفس الأخير / اسراء حسام حمدان

النفس الأخير

عشتُ اربعينَ عاماً و لم أدرك معنى الحياة الا في أربعةِ ايام ..

“منذ ثلاثة ايام لم اصحّح جلستي على ذلك الكرسيّ الخشبيّ انتظر اسوأ الأقدار ..
ابي النجّار النّشيط اصبح في الثمانون من العمر و لم نعد نسمع صوت دقّ الأخشاب ولم يعد يزعجني صوت المنشار و أنا امام مكتبي الذي صنعه لي أبي بيديه الطاهرتان
لم ابالي حقّاً ان تعبه كان من أجل أن أصبح طبيباً معروفاً كما خططّ و أمي , الرّاحلة الى خالقه ,
كما لم يبالي أبي بأنني أحتاج من عمرِهِ عُمراً حتى أكن رجلا مثله لا يخشى الفقر ولا يرضى الذّل
لازال الكرسيّ يهتزّ كلّما شهَق ابي السّاكت منذ ثلاثة ايّام على سريره ..
-الدنيا يا ظالم يا مظلوم
تحرّكت بسرعة , استرق النّظر لأبي كي استمع اليه , منذ متى لم أسمع صوته الخشن الحنون
حاولت شدّ كفّه المليء بتجاعيد الصلابه و سألته ما اذا كان يريد شيئاً ام انني من فرط ما ذهبت الى الماضي بدأت اهلوس ؟
اعاد جملته الغريبة وقال لي : يا بنيّ لطالما ذهبَتْ سنوات عمري في سبيل ان اصنع تمثالاً لا يشبهني
ارجوك استمع اليّ جيّداً لعلّها الأخيرة
هل تظنّ انّني قويّ الى الحد الذي يعيدني الى المسمار و الجدار ؟
لقد مضت سنوات عُمري بمخطّط ناجح الى حدٍ ما , لقد كان كل قرار اختيار الّا الموت , ثمانون عاماً لم أُكرَه على شيء و لم أقبل الأنصاف, لطالما كان الصديق ليس صديقا تخليت عنه , و عندما احتجتُ أخي و لم أجده , تنازلت عن كل أملاكي في المدينة و لم أقبل ان يكن فقط ما يجمع بيني و بين أخي اسم أبي , و قبل ذلك عندما اِعتَرض أبي زواجي من أمك فقط لأنها ابنة رجل فقير الحال , تزوجتها و كان حصاد المعصية زوجة طاهرة عفيفة انجبت طفلاً مطيعاً طبيباً ناجحاً مثلك , كنت أعدّ ايامي و لم يحدث أن ندمت على ما فعلتُ يوماً..
أعلم أنك نكرتُ مهنة ابيك يوماً لكنّني لم أغضب بقَدر ما تألمت بضع ساعات , مواسياً نفسي بتلك السّاعة التي تُثبِت فيها أنّ سخرية الآخرين لم تكن الّا ضريبة نجاحك ايّها الطبيب , انني فخورٌ بك و لست حزيناً على حالك التي سأتركها تُصارع هذا العالم الذي يدّعي القوّة , فقوّة العالم تكمن في عقلك الباطن و عقلك الباطن يصنع قوّتك..
تخيّل أن العالم لك , صُنِع من أجلك , وأنّ كل من على هذِه الأرض سُخِّرَ لإرضائك, لا تجعل استشارتك لِما حولك قرار يغيّر مجرى حياتك , و تأكد أنّك ستُعاني وحدك عندما تتخلّى عما تلهّف اليهِ قلبك , لا تسعى وراء ما لا يسعى اليك , و جرّب كل ما اشتهتهُ نفسك و احرِمها اذا اشتهت معصية خالقها .. انعزل اذا لزم الأمر و اظهر قويّاً عند الشّدة, واجعل الندم عدوّك الأول و صديقك المقرّب عدوّك الثاني ..”
-و الآن أجِبْني هل ستكون نادماً على ما فعلت ؟ أم على ما لم تفعل ؟ ..
تلفّظ انفاسه الأخيرة و ترك يدايَ قبل أن اجيبه , لكنّني سُرعان ما أدركت معنى الحياة , ان النّدم يوم العجز يكمُن فيما عجزنا عن فعله يوم كُنّا بكامل قُوانا العقلية و الجسدية , الدنيا يا ظالم يا مظلوم , لم أختر احداهما ولكن كان قراري فيما بينَهُما , و قبولي للأنصاف يعني عجزي و ليس ابن النّجّار من يعجز .. و اللهِ يا أبي انني لم أسخَر منكَ يوماً لكنني ظننت قبل حديثك ان جذب النّاس اليّ غاية , و لكنني بعدُها ادركتُ انها لا تُدرَك ..”
القيت التُّراب على روحهِ الحيّه الباقية في أرجاء منزلنا الخشبيّ و مضيتْ ..”

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى