الميخائيليون العرب / يوسف غيشان

الميخائيليون العرب
كان أبي أصمّا (يعني أطرش) ، ليس أصمّا تماما ، لكنه على الأقل لم يكن يسمع كلمة ماما . وقد انبثق في هذه الفانية عام 1900 تقريبا، لم يعان من مشكلة أصفار الكمبيوتر آنذاك، لكنه أصيب بالتهاب في الأذن في سن الخامسة ( وهو ذات العام الذي أطلق فيه اينشتاين نظريته النسبية ).
المهم ،تقرحت أذنا، الوالد فعالجتها جدتي الرؤوم بمواد غريبة انقرضت قبل تشكيل الجدول الدوري للعناصر . ولما تفاقم الوضع حاولت الجدة (أمه طبعا) تسليك بواليع الأذنين عن طريق دس سيخ شواء يدخل من الأذن اليسرى مرورا بالدماغ إلى اليمنى ، لكن والدي نجا بأعجوبة، إذ قرصها عقرب مراهق في مكان حساس، قبل أن يلج السيخ إلى تلافيف الدماغ.
لنتفق!!كان الوالد ثقيل السمع جدا جدا ، وكنت أضطر للنهيق حتى أجبره على سماع صوتي . وكانت صلته الدائمة مع العالم الخارجي راديو بلاستيكي متوسط الحجم ، حيث كان يحشره بين راحة يده وأذنه غير المعطوبة تماما (التي لم يصلها السيخ)، كان يلصق الجهاز في صيوان الأذن تماما ، ويتعاطى سماع نشرات الأخبار .النشرة تلو النشرة دون كلل أو ملل.
عدا التنصت على المذياع ، كانت علاقة الوالد مع التكنولوجيات معدومة البتة، ولما نجح التكاتف الأسري في شراء جهاز تلفزيون ، وضعناه في الصالون حيث يجلس الوالد وينام ، لكنه لم يقدر على استيعاب فكرة أن المذيع أو الممثل لا يراه ،وهو يشاهد ان عينه في عين الرجل ،لذلك كان يجلس بكامل أناقته (المفترضة) ، يجلس بوقار كأنه في مجلس هيئة أركان حرب ،وكان يرفض تغيير سرواله (ابو دكه) إلا بعد إطفاء الجهاز ، ثم صار ينهرنا إذا حاول احدنا تغيير المحطة (القصة حصلت قبل اختراع الريموت كونترول ) وكان يقول بانفعال :
-ليش بتفركوا في أذانه ،فيه عندهم (مأمور) هوه بغير على خاطره !!
إذ يعتقد بان التلفزيون يتغير من قناة إلى قناة حسب مزاج المسؤول (المأمور) هناك .
ذات يوم صرخ الوالد فجأة وهو يشاهد تمثيلية بدوية .. صرخ قائلا :
-اقضبوه.. اقضبوه ..هاظا وه اللي (قشّطني) البارودة في ال(48)
.إذ كان الوالد الرئبال قد تعرض إلى هجوم من احدهم في ذلك العام واخذ بارودته ،عنوة .ولما سمعنا نضحك حتى البكاء، قال بحزن وكآبه :
– أنا ما خلفت رجال ،إنا خلفت نسوان .
مات ميخائيل عام 1991 عن 91 عاما قضاها في البحث عن لقمة العيش ،جاء المعزون ،وكانوا يقولون لي على سبيل العزاء :
– اللي عقب ما مات !!
كنت اضحك في سري من مدلولات هذه العبارة خصوصا بعد ان فكرت فيها بعمق واستبعدت الغرور الشخصي الذي كان يجمل صورتي مقارنة مع الوالد ، نعم اكتشفت بان ميخائيل عودة الغيشان العزيزات لم يمت،وانه ألان يتناسل حتى صار ينيف عن 290 مليون ميخائيل ،ولا علاقة لهم بالعصر ولا بالعلم ، 290 مليون أعمى يظنون بأنهم مبصرون ،290 مليون كائن يعتاشون على هامش التاريخ والجغرافيا ،وعلاقتهم الوحيدة بالعالم وما يجري فيه ،تتلخص في الاستماع إلى نشرات الأخبار .
من كتابي(مؤخرة ابن خلدون) الصادر عام2006

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى