الموت يبدأ في اليوم الرابع

مقال الخميس 16-8-2018
الموت يبدأ في اليوم الرابع
كنتُ أقصر الواقفين وآخرهم ، أمدّ يدي بخجل للمعزّين أتمتم بعبارات لا استطيع تجميعها بالشكل الصحيح ،المشكلة ان التعزية لا تأتي بعبارة واحدة ، ثم أنّي غير ملمّ ببروتوكول “الموت” كله، لذا كنت أتمتم “أي كلام” بصوت منخفض وأهز رأسي..بعضهم يبتسم لي ،وبعضهم الآخر كان يضع يده على شعري كي يرتفع رصيده من الحسنات ، والبعض الآخر كان لا يكترث بآخر الواقفين وأقصرهم فيتجاوزني ويترك يدي الممدودة كسنبلة كسرتها الريح دون أن يأبه بالجرح الأخضر..
عندما انتهى عزاء والدي،وجُمعت الكراسي فوق بعضها البعض وطوي السجّاد،وتقّيأت الدِّلال “حِثل” حزنها الأسود خلف الجدار، وعاد أعمامي إلى بيوتهم ،تخبأت في الفراش وبكيت كثيراً ، فكل الثرثرات والدخان والسعال والحضور والمواعظ الحسنة لم تُعد لي أبي..كل الثرثرات والدخان والسعال والحضور وصوت الفناجين وكلام الرجال ،لم تملأ فراغ اسمه..ولم تؤنسني لحظة اليتم القارص!..
**
لا أريد لعاطفتنا ان تصبح “قنبلة تنوير” تصعد ، تتوهج، تضيء الدنيا ، ثم تخفت وتهوي ثم تذوب في بحر العتمة ،صدقوني أن الموت يبدأ في اليوم الرابع..لا تحسبّن الصغار في فراشهم ينامون ، إنهم يقارعون نشيجهم الصامت ،يراجعون الألبوم الطري ، يرون صور الأب الغائب، يسمعون صوته في رجع الذاكرة ، ثم يحضنون النصف الآخر من الغطاء بحثاً عن حنان، لا تبعدوا عن “جوان” راشد الزيود، ولا تنسوا “كندة” سائد المعايطة ، لا تخذلوا “الياس معاذ الحويطات”..لا تخذلوا أبناء الشهداء الآخرين الأقل حظاً في الإعلام، لا تطووا حزنهم مع سجّاد العزاء ، لا تنشغلوا بالحياة عنهم ، لا توجعوهم أكثر ،و تقتلوهم أكثر..صحيح أنهم فقدوا آباءهم ، لكن لا نريدهم أن يفقدوا ثقتهم بعاطفتنا ولا بإيمانهم بهذا الوطن!.
**
غداً الجمعة ،وأكثر ما يقلقني ان تتسابق البرامج الصباحية على تقاسم أسر الشهداء للعبث بأوجاعهم تحت فكرة إكرامهم، أكثر ما أخشاه ان تُسأل الأمهات والزوجات والأبناء ” شو شعوركم لما استشهد”؟؟ وأكثر ما أخشاه أن تقدّم لأم شهيد “خلاط مولينكس” او “غسالة” أو “مجموعة مكياج”..أخاف الا نفجّر فهم الشهادة واستيعاب الحزن البريّ المقدّس !

احمد حسن الزعبي
ahmedalzoubi@hotmail.com

اظهر المزيد

‫2 تعليقات

  1. الله عليك يا استاذ
    دائما كلامك على الوجع
    مقال يلامس شغاف القلب

    والاكثر من رائع كلامك عن اعلامنا واسئلته المقززه
    وتكريمه المزعج لامهات الشهداء

    احسنت وابدعت
    كل التحيه استاذي الكريم

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى