درس جدتي ليوسف
لا تزيد عنهُ عمراً سوى مئة عامٍ أو أقل ، حملتهُ بيدها لتقول لهُ شيئاً ما ، أجلستهُ في حضنها حتّى تعطيه ملخص الحياة لعلهُ استوعبَ شيئاً من حكمتها .
رجعت جدتي بهذا الطفل الى حقبةٍ أخرى ترويها وفي كل قصةٍ تقسمُ التجاعيدُ عن تفاصيلها ، قالت لهُ عن أول درسٍ في طفولتها وكيف انقضت تلك الطفوله في جامعة البيدر بين مساق التغمير الى تخصص الطحين والطابون .
روت لهُ الصباح وتسبيحةُ أمها تسابقُ الشمس الى السماء صاعدةً الى جوار ربّها ، حدّثتهُ عن رائحة الخبز التي تلامسُ قطرة الندى فلا يعلم الورد هل يشرب الندى أم يستنشق العطر من قطراتهِ !
مسحت على رأسهِ وكلها مشاعرُ خوفٍ على مستقبله ، كأنها أرادت ان تقول لهُ : دعك يا يوسف من طفولة اليوم ولا تصدق وجبة السيريلاك ، اياك ان تبخل على احفادك بحديثي هذا وان لم يصدقوا كلامي دع الماضي وأسمعهم طفولتكَ أنتَ على جهاز الآيباد .
حدّثتهُ عن شبابها وشيبها ، عن رحلة البيدر واخلاص ” الفدّان ” للتراب ، عن شراهة الأبقار في الحقول وحقد الشوك على يد الحصّاد ، روت لهُ نزهتها الى عين الماء وحكايا رفيقاتها في الصبا يحملن على رؤوسهنَّ الماء ليروين ضمأ البيت وريق الحياه .
نامَ يوسف بين يدها وقد سقطت دمعةٌ من جدتي على وجنته ، دمعتها ثقيلة ممتلئة شوقاً وحنيناً وذكريات ، دمعةٌ اشتاقت الى البركه وغيث السماء ، دمعةٌ أمسكت بروحِ طفولتها ، دمعةٌ تحنُّ الى قسوة الشباب ومكياج التراب .
وضعت جدتي يوسف على وسادته ثم قبّلتهُ على رأسه وكلّها أمل بأنه يحلم الآن بتلك الحياه عائداً الى الماضي ، ابتسمت وهمست في اذنه : ” يا جده لا تنسى تغمّر القمح عن جدّك خليه يروح يرتاحله شوي ” .
حبيبي يوسف سوف تأخذ دروساً كثيرةً في حياتك ، لكن تأكد بأن هذا الدرس هو أسمى وأصدق وأنقى درس سوفَ تأخذهُ في حياتك حتى لو أنك لم تفهم شيء ، سأدع هذه الصوره لك وتلك الكلمات حتّى تكبر لتقول لي هل حلمتَ حقاً بما قالتهُ لك جدّتي وهل بالفعل ” غمّرت ” القمح عن جدّي في نومك ؟