اللّوحة / ميس داغر

اللّوحة

كانت في بيتي لوحة معلّقة على الجدار، أسميتها لوحة حياتي، رسمتها بيدي، وتعلّقت روحي بها زمناً مديدا. لي مع تلك اللوحة قصة طويلة، ابتدأت منذ كنت في الخامسة عشرة من عمري. فقد بدأتُ في ذلك العمر أعبّر عن نفسي من خلال الرسم فيها. خطوطها وألوانها عبارة عن مواقف فنية لي من الحياة. كيف يكون هذا؟ قد يكون من الصعب شرحه. بنيتُ خلال السنوات اللاحقة تصوّراً فنياً كاملاً لحياتي في هذه اللوحة، مثلما يعبّر الكاتب عن تصوّراته بالبناء اللغوي.
أهمّ الدروس التي تعلمتها من الحياة، أهمّ ما أريد قوله في الحياة، أهمّ ما أحب أو أكره، أهم ما التقطته حواسي، أهم أحلامي وتأمّلاتي، صببتها صبّاً في تلك اللوحة. بقيتُ أعدّل وأغيّر في ألوانها وخطوطها وفق ما يضاف إلى أفكاري واستنتاجاتي بتقدم العمر. من عمر الخامسة عشرة إلى أواخر العشرين وأنا أضيف وأعدّل على اللوحة، حتى صارت تمثّل لي التحفة الفنية التي تنعكس دواخلُ نفسي فيها كانعكاس صورة وجهي في المرآة.
بقيتُ فخورةً بنفسي وباللوحة التي أنجزَتْها عبقريتي الفنية، إلى أن وطأت قدماي الثلاثين من العمر. بدأ بريق اللوحة في نفسي يبهتُ شيئاً فشيئا، وتثاقلت يدي عن إضافة أي جديد لها. خلال عامين أو ثلاثة توقفتُ تماماً عن التفكير فيها أو حتى النظر إليها. بعد هذا عدتُ أنتبهُ لها، ليس انتباه المُعجَب، بل انتباه المُستفَزّ. أصبح وجودها على الجدار يستفزني أكثر من أي شيءٍ آخر.
في أحد الصباحات مرّت سيارة تاجر خرداوات في حيّنا، فاستوقفته، ثمّ أنزلت اللوحة عن الجدار وحمّلتها معه بدون أيّ مقابل. فعلتُ هذا وأنا احتسي شراباً مثلّجا، بضميرٍ مرتاح ومن غير أي تردد.
أنتم أخبروني، ما حاجتي إليها بعدما تبيّن لي أنّ حياتي كانت في الواقع مرسومة بيدٍ غير يدي، وفي لوحة أخرى؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى