القدس لنا / د . ظاهر محمد الزواهرة

القدس لنا
القدس ليست أغنية على الشفاة ، وليست جملة دعائية تلصق على واجهات المحال ، بل هي عقيدة جذورها تحت الأرض وفرعها في السماء ، وحبها أمانة في دم الشهداء ، وإنّا نحبها مهما استبد بنا الألم ، ومهما عصفت بنا ريح الشمال ، ومهما تنوعت الألوان وتعددت الأشكال ، فهي أمّنا التي تضمنا بين ذراعيها الحنونين ، ونحن لها وإن سعّرت نار العدى والظلم والعدوان .
القدس ليست صورة تعلّق على حائط البيت الذي نعيش ، ويراها الزائرون لنا ، وليست قلادة تضعها الفاتنات على صدورهن ، بل هي الدم الذي ينبض في قلوبنا وعروقنا ، وعشقها دم في شراييننا إلى أبد الحياة ، فكيف ينساها العابدون لربهم وهي ركن في الصلاة ؟! كيف ننساها وهي مدينة الأنبياء ، ومهبط الوحي ، ومعراج رسولنا الكريم ، وأول قبلة للمسلمين ، وثاني المسجدين ، وثالث الحرمين الشريفين ؟! كيف ننساها وهي مكتنا الثانية ؟! ألم يأتِ إليها الرسول من مكة الأولى في الإسراء ؟! إذن هي مكة ثانية ! وهي قداسة عظمى ، بارك الله فيها ومن حولها ، وهي عرفة كبرى للحشد والرباط ، ويوم القيامة ينادى من مكان إليها قريب ، ولست على قدرة أن أحصي فضائلها ، وهي أم الفضائل والمدائن والرجال .
القدس لنا وإن أحرق اليهود ترابها ، وإن زلزلوا بالبطش حجارتها ، فنحن ترابها ، ونحن حجارتها ، ونموت دونها قبل أن تصل إليها أيدي الكلاب ، وقبل أن تدنسها قطعان الخنازير ، وإن بحثوا زورا تحت جدرانها عن خاتم مزعوم ، وإن جاءوا إلى المبكى ، فكلّ حيطان قدسنا وأقصانا ستغدوا المباكي لليهود الظالمين ، ولن تسعهم الدنيا على وسعها ، فاليوم لنا ، وغدا لنا وليس لهم ، وهم حثالة جاءوا إليها سارقين ، واللص لابد له من قطع يديه ، وجدع أنفه ، ومراغه تحت التراب ، ستضيق عليهم الدنيا بما رحبت ، وسيولون مدبرين ! يا قدس يا عالم الأبطال والتاريخ ، يا زهرة الأحباب والعشاق ، يا جنة الإيمان والأحلام ، حياتنا فيك ، وتاريخنا فيك ، وأحلامنا فيك ، والنصر لن يضل طريقك الهادي ، والنصر فيك شمس حزيران التي لا تخفى على أحد .
يا قدس يا وجدي ، ويا سرّ وجودنا وصمودنا ، لا تحزني ! كم عاث اليهود في ربوعك من فساد ؟ وكم دنّسوا قداسة أرضك وطهرك بالظلم والإلحاد ؟ لم ينم اليهود في خدرك الطاهر ، وإن رأيت عيونهم فهي في خوف وارتجاف ، ولم يمشوا على بساطك الأخضر ، وإن رأيت أقدامهم فهي مزلزلة ضعيفة . لا تنظري بالحزن إلى عشرات السنين ، إذ جاءوا بالقنابل والطائرات ، والمدافع والدماء ، لا تنظري إلى مصاصي الدماء ، وقد عاثوا الفساد في الدنيا ، فكيف بالأقصى المجيد ؟! لا تنظري بالقهر إلى عشرات السنين ، حين اتسعت مجازرهم إلى الأطفال والرجال والشيوخ ، لم يكملوا لليوم مئة من سنين ، إذن ضاع اليهود قبل إتمام المئة ، ضاع اليهود المعتدين ؛ لأن المعتدي له في كلّ الشرائع والسنن ذلّ وخزي واندحار .
القدس لنا ، فلا يهمنا ظلم الطغاة في ساحاتك الحمراء ، وإن منعوا الأذان في مآذنك الأبية ، وإن منعوا أطفالك التقرب والصلاة ، وإن هدموا منازل أهلنا فيك ، وإن حاصروا الشرفاء قي صمودهم ، وهم النخيل ، فلا يهمهم الإعصار ، أو ريح صرصر والحسوم ، فهذا عليهم في كتاب الله تتلى للمعاد . القدس لنا ، وإن أحاطوها بصور العنصرية والفساد ، فهم الأذلة الصاغرون ، وهم الذين لا يقاتلون إلا من وراء جدر ، وقلوبهم شتى ، والقدس لنا واليأس لهم ، فلن ينعموا فيها تحت صراخ أطفالنا ، ولن ينعموا فيها تحت قصف الطائرات ، والقدس لنا والنصر لنا ، سيأتي صلاح الدين إليك من جديد ، سيأتي بالنار والدم والحديد ، وسيكون عقاب اليهود كعقاب أعقاب الصليبين ، وتلك حطين القريبة مرآة أمسنا ، وأملنا على غد ، وغدا زفاف قدسنا ، والقدس تنتظر يوم الزفاف ، وتنتظر فارس الأبطال ، ونحن كلّنا أبطالها .
القدس لنا ، وحبّها عبادة ، وحبّها رضعناه صغارا ، وعشناه شبابا ، وحفظناه شيوخا في الوصايا والقلوب ، والقدس جنتنا وفيها خلودنا ، وهي الحبيبة والصديقة والحنان .
القدس لنا نحن الشباب ، ولنا الغد ، وقد حفظناها في دروسنا في بواكير السنين ، وحفظناها يوم أن كبرت أحلامنا في صدورنا ، ونموت ونحن على عهدها ، والوعد أن الملتقى فيها .
القدس لنا نحن الرجال ، ولنا الغد ، قداسة لا تغيب عن بالنا ، وقداسة في قلوبنا ، وقداسة في عقولنا ، وقداسة كالشمس التي لا تغيب عن هذه الواسعة ، وإلى يوم القيامة . موعدنا في الأقصى ، والقدس أمّنا ، والصلاة في ساحاتها ، وننال من بركاتها ، وقد طردنا الغزاة المعتدين .
القدس لنا ولأبنائنا من بعدنا أمانة في أعناقنا وأعناقهم ، ولها منّا كلّ التضحيات ، ولها كرامة أمة لا يمكن أن تضيع ، وقد حمل الرجال راياتها ، وغنّت أمي في حقول القمح لنا أغنية الانتصار ، كلّ المصائب قد تهون على الفتى إلا ضياع حبي و موت أمي ، بل ضياع قدسي والبلاد ، وتقول أمي يا بني : قدسك ، ثم ماذا ؟ قدسك ، ثم ماذا ؟ قدسك ، ثم ماذا ؟ قدسك والأقصى فيها لا يهان ، ثم ماذا ؟ كلّ من عشق القدس ، ومن قدّس القدس ، وهي كريمة لا تهان ! ثم ماذا ؟ كلّ من عشق العروبة ، فلا يبغضها إلا منافق ، وكلّنا أردنيون لأجل الوطن ، وكلّنا فلسطينيون حتى تعود فلسطين ، وعراقيون حتى يعود العراق ، وأندلسيون يحملون مفاتيح القصور في غرناطة . والقدس لنا ، والقدس لأمتنا العريقة ، القدس لنا من الماء إلى الماء ، القدس لنا يا أرض ، القدس لنا يا بحر ، القدس لنا يا سماء .
د . ظاهر محمد الزواهرة – الجامعة الهاشمية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى