الـنـاس للـنـاس يا نـاس! / د . ناصر نايف البزور

الـنـاس للـنـاس يا نـاس!

في مطلع صيف 1992، يخرج الراحل الحسين فجأة و يستقِـل سيارته الخاصة الساعة الرابعة فجراً ويُغادر القصر صوب مدينة الحسين الطبية دون إشعار أحدٍ من مُرافقيه أو حرسه! حالة من الهلع تدُب في القصر بعد دقائق من اختفاء الملك وتستمر نحو الساعة حتى يعلموا بمكانه لاحقاً!

وفي ذروة حالة الاستنفار الأمني وفي طريقه إلى المستشفى، يتوقّف الراحل بسيّارته فالإشارة الضوئية كانت حمراء بالرغم من أنَّ الشوارع كانت خالية تماماً!!! تشاء الأقدار أن يصطف سائق تكسي إلى جانب الحسين؛ يُمعن السائق النظر فيتعرّف على شخصية الملك؛ فيترجّل ويندفع نحو “أبو عبد الله” وهو يصيح فرحاً وخوفاً واستغرابا في آنٍ واحد: “سيدي حرام عليك تطلع هيك بتالي الليل… اعتبرني حارسك حتّى أوصلك للمكان اللي رايحله”!!! يُحاول الملك الراحل تهدئته وطمئنته مداعباً: “أنا آسف وإن شاء الله ما بعيدها”!

يقسم السائق على مرافقة ملكه حتّى يصل وجهته؛ حيثُ كان ذاهباً للإطمئنان على صحة رفيق عمره فى السراء والضراء وخصمه في بعض المراحل، رئيس منظمة التحرير وقتها ياسر عرفات! رحل الحسين؛ ورحلَ عنه المال والجاه والمُلك والقصور فهذا كُلُّه زُخرُفٌ زائل؛ لكن بقيت ذكريات الإنسان الذي سَطَّرَ قصصاً كثيرة في نُبلِه و وفائه وبساطته وطيبة سَجِيَّته!

مقالات ذات صلة

تلك هي واحدة من القصَص التي رواها يوسف القسوس في بعض المناسبات العامّة! ما أثار ذكريات هذه القصّة الجميلة بكلِّ ما فيها من دروس و عظات هو ما سمعتُهُ اليوم من بائع خُضار وهو يروي بحُزنٍ وحسرة لشخصٍ في دكّانه ما حصَلَ معه بالأمس حينَ ارتفَعَت حرارة طفله الصغير قرابة الثانية والنصف قُبيل الفجر!

يمضي الخُضرجي ببساطته ويقول: “ساءت حالة طفلي الصحيّة فجأةً وشعرتُ انّني سأفقده ولم يَكُن امامي سوى نقله إلى المستشفى بسرعة؛ لم استطع فعل شيء فالوقت متأخِّر، وبيتي بعيد جِداً عن أيِّ طبيب، وفوق هذا وذاك فأنا ليس لدي سيارة ولا دراجة هوائية…فَكَّرتُ قليلاً ولم يخطُر ببالي سوى الاتصال بأعَزِّ صديقٍ لي في الوجود، ولم يَكُن عندي أدنى شك في تلبيته لاستغاثتي … وهُنا كانت الصاعقة إذ تلعثَم صديقه واعتذر بحجّة انَّ الوقت متُأخِّر وهو يخشى الخروج في مثل هذه الأوقات

كادَ بائع الخضار أن يبكي وقد أبكاني وهو يروي قصته!!!عندها تذَكَّرتُ قصّة الراحل الحسين الآنفة؛ حاولتُ مواساته ببعض الكلمات و تساءلتُ كيف يُمكِن لإنسان أن تموتَ رجولته وكرامته وينعدم عنده أدنى شعور بالوفاء بل وبالإنسانية وهو يعلمُ أنَّ طفلاً يكادُ يموتُ بسبب نذالته! لطالما كانَ الأردنيون يَتغنّون بعبارة “الناس للناس”؛ وهي ما أبدَعَهُ فيلسوف الشعر العربي المعرِّي يوماً حيثُ قال:

الناسُ للناسِ مِن بدوٍ وحاضِرَةٍ *** بَعضٌ لبعضٍ وإنْ لَم يشعروا خَدَمُ

!!! واللهُ أعلَمُ وأحكَم!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى