العلمانية العربية / د. هاشم غرايبه

العلمانية العربية

يتصف العلماني العربي بأنه مناوئٌ للإسلام فقط، وليس لكل العقائد السماوية، لإثبات صحة زعمي هذا ، جَرِّب أن تكون هنالك امرأتان أمامكما، إحداهما راهبة والثانية مسلمة، كلتاهما محجبتان وترتديان لباسا محتشما كاسيا للجسم، حينما تسأله عن رأيه في المسلمة ، سيشير الى ارتداءها الحجاب على أنه تخلف ولو كانت أستاذا أكاديميا، لأن الحجاب برأيه يحجب العقل، وأنها ما تلبسه ليس عن قناعة وإنما استجابة للضغط المجتمعي، إما مكرهة من أبيها أو زوجها، أو تظاهرا كاذبا بالورع والتقوى.
أما عن رأيه في الراهبة، فسيقول لك أنا علماني أحترم عقائد الآخرين ولا يجوز لي التدخل في خصوصياتهم الثقافية.
هذا الإمتحان وإن كان بسيطا في آليته، لكنه عميق في مدلولاته، فهو يكشف عن الدافع الحقيقي وراء هذه الفكرة التي تولدت بداية في أوروبا مترافقة مع الثورة الفرنسية التي قلبت كثيرا من المبادئ التي ارتكز عليها النظام السياسي للأمم الأوروبية.
بالطبع لم يكن الفكر الديني هو المستهدف بل سلطة الكنيسة، لكن ما كان يمكن الإجهاز على تسلطها بدون تقويض الفكر الذي ترتكز عليه، لذلك لم يكن مفاجئا الإرتباط بين الإلحاد والعلمانية، لكن لتخيف الصدمة على المجتمع ابتدعت فكرة عدم استهداف الدين بل فصله عن السياسة، طبعا لم يكن من خيار لدى الكنيسة غير الرضوخ بعد أن تخلى عنها حليفهيا، الأول (طبقة الإقطاعيين والنبلاء)، ليصبحوا نواة الرأسمالية الصناعية، والثاني الذين هم العائلات الحاكمة، التي أصبحت نواة الإمبريالية، وليزدهر هذا التحالف باكتشافات العالم الجديد وباستعمار دول العالم القديم، وينتج النهضة العلمية التقنية بدافع زيادة الأرباح والمكاسب.
كان أهم أسباب اندحار الكنيسة، هو أن الفكر المسيحي لم يكن دينا متكاملا، فليس هنالك أسس وتشريعات اجتماعية أو اقتصادية، بل وصايا أخلاقية وتعاليم روحانية، لم تكن تشكل للمجتمع منهاج حياة، بل مجرد نمط ثقافي، لذلك لم تُحدِث العلمانية هزة اجتماعية، بل مر الأمر بسلاسة حيث ظل الدور القديم للكنيسة وعظيا تقليديا كما هو.
نشأة العلمانية العربية كانت مختلفة، تكوَّن دعاتها أصلا من معادي الإسلام الذين ظلوا رافضين له منذ ظهوره، وانضم إليهم بعض الذين فهموا خطأً أن التخلف الذي فرضته حكومة الإتحاد والترقي التي سادت الدولة العثمانية على العرب في القرن التاسع عشر كان سببه المنهج الإسلامي، وأن الفكرة القومية أو الماركسية بديل يمكن أن يرتقي بالأمة.
فشل الفريقان، وكان السبب الرئيس أن الإسلام هو دين وليس مجرد ثقافة، أي عقيدة متكاملة مترسخة في وجدان الفرد ومنهاج ضابط لكل أوجه الحياة، ولا توجد جهة تمثله يمكن إخضاعها فيرضخ الأتباع.
هذا الفهم السطحي للأمور هو الذي أفشل جهود العلمانيين العرب، رغم محاصرة مناوئيهم الإسلاميين، وتمكينهم من تبوّءِ مراكز القرار طوال القرن المنصرم، ودعم الغرب لهم ثقافيا وعسكريا.
لكن الفشل الذي مُنوا به كان ذريعا، فثقافة التخلي عن الدين لم تفشل فقط، بل تراجعت كثيرا عما كانت عليه قبل قرن، لتشهد المنطقة العربية، ردة فعل تمثلت بحالتين: ردة فعل متشددة قوامها العنف، وردة فعل متعقلة قوامها صحوة وفهم أعمق لدور الدين في نهضة الأمة، كما أن المنهاج الإقتصادي الليبرالي المستورد فشل تماما في تحقيق ولو قدر بسيط من الإزدهار.
في تعبير عن فشل العلمانيين العرب المدقع، فبعد قرن كامل، تراجعت أهدافهم كثيرا لتستقر عند المطلب البائس… الدولة المدنية ..اي العودة الى مرحلة الأول الإبتدائي: الف باء بوبايه… قلم رصاص ومحايه!.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى