العبودية المختارة / د. هاشم غرايبه

العبودية المختارة

كتب المفكر الفرنسي “لابواسيه” في القرن السادس عشر رسالة ، لم تنشر إلا بعد ثلاثماية سنة في كتاب بعنوان “العبودية المختارة” بسبب ظروف الإستبداد في زمنه.
رغم أنه كتبها قبل أربعة قرون، لكنها كما لو أنه كتبها وهو يتمثل ظروف أمتنا حاليا، أو أن انظمة الحكم العربية أعادتنا الى القرن السادس عشر.
كتب في رسالته الى صديق له يقول: أي رذيلة تعسة أن نرى عددا لا حصر له من الناس، لا أقول يطيعون بل يخدمون، ولا أقول يُحكمون بل يستبد بهم، حياتهم نفسها ليست لهم، أن نراهم يحتملون السلب والنهب وضروب القسوة، لا من جيش ولا من عسكر أجنبي ينبغي الذود عن حياضهم ضده، بل من واحد منهم لا هو بهرقل ولا شمشون، بل هو في معظم الأحيان أجبن من في الأمة وأكثرهم تخنثا!!، فأي مسخ من مسوخ الرذيلة هذا الذي لا يستحق حتى اسم الجبن، ولا يجد كلمة تكفي قبحه، والذي تنكر الطبيعة صنعه وتأبى اللغة تسميته، ومع ذلك فهذا الطاغية لا يحتاج الأمر الى محاربته وهزيمته فهو مهزوم خلقة، بل يكفي أن لا يستكين البلد لاستعباده، ولا يحتاج الأمر الى انتزاع شيء منه بل يكفي الامتناع عن عطائه..
الشعوب إذن هي التي تترك القيود تكبلها، وهؤلاء الطغاة كلما نهبوا طمعوا ودمروا، فإن أمسكنا عن تموينهم ورجعنا عن طاعتهم صاروا عرايا مكسورين بلا حرب ولا ضرب”.
ثم يتابع التحريض قائلا: “هذا الذي يسودكم الى هذا المدى ليس إلا عينان ويدان وجسد واحد، لا يملك شيئا لا يملكه أقلكم، فأنى له العيون التي يرقبكم بها إن لم تقرضوه إياها، وكيف له بالأكف التي يصفعكم بها إن لم يستمدها منكم؟ أنى له الأقدام التي يدوسكم بها إن لم تكن من أقدامكم؟؟”.
عندما ينتقل “لابواسيه” الى تحليل نفسيات الطغاة وتفسير مسلكهم، يبدأ بتصنيفهم الى ثلاثة أصناف حسب أسلوب وصولهم الى الحكم فيقول: “البعض يمتلك الحكم عن طريق انتخاب الشعب له، والبعض الآخر بقوة السلاح، والبعض الثالث بالوراثة المحصورة في سلالتهم. فأما من انبنى حقهم على الحرب فنعلم جيدا أتهم يسلكون كأنهم في أرض محتلة لا يمتون لها بصلة، وأما من ولدوا ملوكا فهم ينظرون الى الشعوب الخاضعة لهم نظرتهم الى تركة من العبيد، فيتصرفون في المملكة كما يتصرفون في ميراثهم، وأما من ولاه الشعب مقاليد الدولة فينبغي أن يكون احتماله أهون، لولا أنه ما أن يرى نفسه يرتقي مكانا يعلو به الجميع وما أن تستغويه العظمة، حتى يعقد النية على ألا ينزاح من مكانه أبدا، وعندها يبز سائر الطغاة في جميع الرذائل بل في قسوتهم ايضا، فيسلك سبيل مضاعفة الاستعباد وطرد فكرة الحرية.”
ويخلص الى القول: “هنالك بعض من الاختلاف بين الطغاة، ولكني لا أرى اختيارا بينهم، لأن الطرق التي يستولون بها على الحكم لا تكاد تختلف: فمن انتخبهم الشعب يعاملونه كأنه ثور يجب تذليله، والغزاة كأنه فريستهم، والوارثون كأنه قطيع من العبيد امتلكوه امتلاكا طبيعيا”.
لو عرف “لابواسيه” الإسلام لوجد الإجابة، فالإيمان بالتوحيد هو السبيل الوحيد للمساواة بين البشر، عندما تتحدد العبودية لله فقط فإن ذلك يعني ببساطة انتفاء عبودية انسان لإنسان آخر مهما كانت صفته، بل يتساويان في مدى انصياعهما لفكرة موحدة تمنح العدالة المطلقة للجميع بالقدر ذاته، ولا تقبل التفاضل بين الناس ألا بمقدار الالتزام بتلك الأسس الفاضلة الموحدة.
وإذا كان (لا إكراه في الدين) فمن باب أولى رفع الإكراه عن بقية الأمور وخاصة السياسة، لأن ما يأتي بالإكراه ليست سياسة وليست رشدا بل غيا، ولهذا سمي القادة السياسيون الذين جاءوا الى الحكم برضا الناس وموافقتهم بالخلفاء الراشدين، بينما لم يمنح هذه الصفة من جاء من بعدهم ممن تسلم الحكم بالوراثة، كما أن الأخذ بمبدأ (تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم) تؤسس للعلاقة المبنية على القبول بالآخر واحترام رأيه وفكره، ناهيك عن بناء القواسم المشتركة وما عليه التقاء، وليس ما يفرق ويبعد، إضافة الى منع الاحتكام الى موازين القوى التي تؤسس عادة للطغيان والتسلط.
لذلك أنزل الله الدين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى