الشعب جائع : الأردنيون بلا خيارات

الشعب جائع : الأردنيون بلا خيارات
د.لبيب قمحاوي*

الأردنيون جياع و غاضبون ، ولكنهم صابرون وهادئون . وجوع الأردنيين ليس نتيجة عوامل وظروف قاهرة أو خارجية ، ولكنه محصلة فساد وإفساد وسوء إدارة وفوضى في الأولويات وولاية الأقل معرفة على الأكثر معرفة و الأقل قدرة على الأكثر قدرة وهكذا . جوع الأردنيين و أزماتهم هي من صنع بعض الأردنيين الذين وضعوا مصالحهم الشخصية قبل المصلحة العامة ، و اعتبروا أن كل مايعزز مصالحهم الشخصية هو في مصلحة الوطن و كل ما يجافي تلك المصالح أمراً مذموماً و مرفوضاً حتى ولو كان في مصلحة الوطن و المواطنين .

ان التلاعب بمقدرات الوطن الأردني و الشعب الأردني أصبح خياراً معلناً وَصَِفةً ملازمة لسلوك معظم المسؤولين الذين يتصرفون و كأن الشعب الأردني غير ناضج و أن إختيارهم جاء ترجمة لقدراتهم وكفاءتهم في حين أنه في الحقيقة ترجمة لإستعداد معظمهم للقبول بالخنوع و العبودية السياسية ثمنا لوجودهم أو بقائهم في السلطة ، بما في ذلك تكريسهم للفساد وتكريس الفساد لهم. وضع بائس لم يعد الأردنيون قادرين على تحمل تبعاته ونتائجه نظراً لشح الموارد أصلاً واستفحال الفساد الذي لم يُبقِ أخضراً أو يابساً . إن الجوع و عدم الاطمئنان لمستقبل الوطن الأردني سيكونان في الغالب المحرك الرئيسي للأحداث في الأردن في الحقبة القادمة .

يدور الحديث هنا وهناك وبنغمات تتراوح بين التذمر و الاحتجاج و الرفض الغاضب عن قضايا و تحديات و مشاكل هامة وحياتية تؤثر على المواطن الأردني بشكل مباشر وعلى واقعه وطموحه و أهدافه . فالمعادلة التقليدية التي تجعل الحياة متوازنة و مُحْتَملة من خلال قدرة الفرد على الموازنة بين دخله و التزاماته قد ضاعت تحت أكوام من الكوارث أساسها استفحال الفساد وسوء ادارة الدولة و التداخل بين الخاص و العام ، و الاستمرار في توجيه اللوم لإستفحال مشاكل الأردن على الآخرين من خارج الأردن مما وَفَّرَ غطاء من الأعذار و الحماية للفاسدين و الفاشلين معاً .

الشعب الأردني شعب غير سعيد ، وعانى ويعاني الكثير على يد حكوماته المتعاقبة وسياساتها الترقيعية التي استنزفت كل موارد الدولة لتمويل قرارات اقتصادية ومالية عشوائية تنحني أمام الفساد و في احيان أخرى عديدة تموله . إن البحث عن السعادة لم يعد قراراً فردياً بقدر ماهو محصلة مجموعة من العوامل أهمها حق الفرد في العمل و قدرته على الانتاج وعلى تلبية احتياجاته و إحتياجات عائلته بكرامة ، وهذه القدرة هي أساس احترام الفرد لنفسه . و الحكومات الاردنية المتعاقبة تسعى لحرمان المواطن الأردني من هذه القدرة من خلال إثقال كاهله بالضرائب و الاسعار المرتفعة و البطالة . وهذا ما أدى في المحصلة الى تعاسة نسبة كبيرة من أبناء الشعب الأردني ، الأمر الذي عكس نفسه مؤخراً في ارتفاع نسبة الجرائم و حوداث الطرق ونسبة الانتحار أو محاولة الانتحار و السرقات بأنواعها وضعف الأمن الاجتماعي مقارنة بإزدياد سطوة الأمن السياسي و ازدياد سرعة غضب الأردنيين و القنوط و اليأس من امكانية تحسن الأمور و الهبوط الملحوظ في مستوى المعيشه و ازدياد نسب البطالة وتفشي المخدرات بين أوساط الشباب . إن كل ما ورد أعلاه يشير الى إقتراب المجتمع الأردني من حافة الخطر . و كل ما أشرنا إليه هي نواقيس خطر تدق بدرجات مختلفة من القوة الى ان يصل الأردنيون الى درجة الخطر الأكبر عندما تتعادل قسوة الجوع مع قسوة الموت وتصبح الحياة أو الموت سيان .

عندما يقرأ القّلة من الموسرين و أصحاب الحظوظ و الحظوة من الأردنيين هذا الكلام فإن معظمهم سوف يستهجن ما يقرأ بإعتباره مغلوطاً أو مبالغاً فيه ، وهم قد يكونوا على حق لأنهم لا يشعرون بوطأة الجوع أو البطالة أو عدم القدرة على تلبية الحد الأدنى من التزاماتهم العائلية وهم بالتالي غير قادرين على مشاركة اخوانهم الاردنيين الأقل حظا ، وهم الأغلبية ، بما يشعرون به من آلام و جوع و قنوط . إن هذه الفجوة الآخذة في الاتساع بين الأقلية التي تملك كل شئ والأغلبية التي لا تملك أي شئ هي أمر جديد و طارئ على المجتمع الأردني الذي إمتاز تاريخياً بتوازنه . فالغنى في الأردن لم يكن فاحشاً و الفقر لم يكن فاحشاً أيضاً و الأغلبية كانت في الوسط كطبقة متوسطة شكلت دائما عماد الاستقرار المجتمعي و السياسي . أما المال العام فقد كانت له قدسية تتجاوز السياسة . فالمسؤولين الكبار كانوا يختلفون في سياساتهم ولكنهم كانوا جميعاً يحترمون قدسية المال العام و معظمهم مات إما فقيراً أو شبه فقير . أم الآن فلم يعد لدى الأردن عملياً مالاً عاماً محصناً حيث أصبح التعامل معه و كأنه مالاً خاصاً يتم تخصيص جزأً منه للإنفاق العام و الباقي للإنفاق الخاص تحت عناوين مختلفة . والفساد أصبح سياسة متعارفاً عليها و مقبولة بل ومدعاة للفخر و التفاخر بين المسؤولين و المتنفذين من منطلق المفهوم الخاطئ السائد الآن في الخلط بين المال العام و الخاص . وفي المحصلة إزداد الغني غنى و الفقير فقراً وتآكلت الطبقة المتوسطة الى حَدٍ يقارب الفناء وصعدت طبقة الفاسدين الى سطح الأحداث و السلطة .

الأردن بحاجة الآن إلى وقفة مع النفس و إلى نفض غبار الفساد و التسول و الارتزاق عنه والى النظر الى الداخل بإعتباره الأولوية الحقيقية . فالاسراف الملحوظ على المستويات العليا يقابله تقنين ملحوظ على الطبقات الشعبية . وخلوا القرارات السياسية و الاقتصادية من الشفافية و الحساسية لمعاناة المواطن تجعل من المواطن الأردني الضحية الحقيقية لسياسات متخبطة أو خرقاء يتم فرضها على المواطنين . وضعف أو استسلام أجهزة الرقابة المالية و التشريعية ساهمت في زيادة تَغَوّل الحكم و السلطة التنفيذية في قرارتها خصوصاً الاقتصادية و المالية . وقد ساعد التفرد في القرارات السياسية أيضاً في ايقاع الأردن في فخ اللاخيار نظراً لغياب القدرة على التغيير و الاصلاح الحقيقيين و غياب أو ضعف الأدوات اللازمة لتحقيق ذلك . فالحكم في الأردن أصبح لا يُطيق أي معارضة لقراراته أو رغباته أو حتى الهمس بتلك المعارضة مهما كان مصدرها . وجنوح أحزاب الوسط الأردنية مؤخراً نحو حل نفسها وترك العمل السياسي هو إنعكاس لضيق صدر الحكم وعدم استعداده لقبول أي نقد حتى ولو كان ايجابياً وصادراً عن احزاب أردنية وسطية ووطنية .

ان محاولة لوم الآخرين لما يعانيه الأردن و التعلل بخذلان الآخرين له لتبرير ما هو فيه من مآسي أمر قد يصدقه بعض الأردنيين البسطاء ، ولكن معظم الشعب الأردني و العالم الخارجي يعلم الحقيقة ولا يعير أي اهتمام لتكرار شكاوى الأردن الرسمي من شح المساعدات وقلتها وهي منهوبة في معظمها . و التشدق بما يُدعى “نعمة الأمن” لتبرير ما يعانيه الأردنيون من مشاكل وفساد وفقر و حرمان قد أصبحت إسطوانة قديمة مشروخه لأن وعي الأردنيين كان دائما هو الضمانة الحقيقية للأمن الداخلي وليس أي شئ آخر كما يحاول البعض أن يَدَّعي .

على أصحاب القرار في الأردن الإجابة على أسئلة قد تبدو في أهميتها أكبر من قدرتهم على الإستيعاب و في طبيعتها أكثر أهمية من مطامعهم الشخصية : ما العمل إذا كان الأردنيون جياع و الدولة مفلسة وما هي خيارات الأردن و الأردنيين ؟ كيف يمكن استرجاع المال العام ، وبلامواربة ، مِن اللصوص ، وهم أردنيون ، وما هي الوسائل لإعادة تحصين ذلك المال ؟؟ كيف يمكن أن نعيد للمجتمع الأردني منظومة القيم التي عاش عليها لعقود طويلة ؟ وكيف يمكن استعادة و إعادة تفعيل الدور التنموي و الاجتماعي للدولة و حماية المواطن الأردني العادي وحماية قوته وحقه في العمل ومستقبل أبنائه ؟

هذه الأسئلة تعكس الدوامة التي يعيشها الأردنيون الآن . و القنوط و اليأس أساسه إفتقار الأردنيين الى الثقة بمقدرة ، بل حتى برغبة حكوماتهم ، في حماية المال العام و إعطاء الأولوية لخدمة المواطن الاردني و مصالحه ، عوضا عن تلبية رغبات الحاكم ومتطلباته حتى ولو كانت على حساب المواطنين والوطن؟ وهكذا فإن محدودية الخيارات تجعل من الوقف الفوري للهدر والتسيب ضرورة قصوى لا تحتمل التأخير ، وعلى الحكومة التوقف الفوري أيضاً عن سياسة الجباية الجائرة وهي مخالفة أصلاً للمادة 111 من الفصل السابع من الدستور الأردني التي تمنع فرض ضريبة ” تتجاوز مقدرة المكلفين على الأداء ” و بخلاف ذلك تكون أقرب إلى سرقة قوت المواطن من فمه بأسلوب يستعمل القانون كغطاء دون خوف من مساءلة مجلس نواب مسلوب الارادة أمام ما يريده الحكم .

القرارات المطلوبة لاصلاح الوضع في الأردن لا يمكن أن تأخذ مداها الحقيقي و الصحيح إلا إذا رافقها اصلاحات هيكلية في ثلاثة مجالات أساسية :-

الأول : تفعيل المؤسسات الدستورية التشريعية و الرقابية و القضائية و اعادة الولاية العامة الدستورية فعلياً الى السلطة التنفيذية ممثلة بالحكومة .

الثاني : وضع أسس مُلْزِمة تستند الى شفافية مطلقة في عملية اختيار المسؤولين في الدرجات العليا و الأولى و الثانية و بشكل يجعل من الكفاءة و النزاهة المعيار الأول لشغل المنصب و ليس الاستعداد للإستسلام لإرادة الحاكم و إرضاءه بكافة السبل .

الثالث : إلغاء جميع التعديلات الدستورية التي تخل بمبدأ الفصل بين السلطات ، و مبدأ تلازم المسؤولية بالمساءلة و المحاسبة .

وبخلاف ذلك فإن أي حديث عن الاصلاح ومحاربة الفساد و استعادة المال العام المسروق و حماية ماتبقى من المال العام قيد السرقة وتحصينه و المحافظة على الطبقة المتوسطة يصبح أمراً لا معنى أو قيمة له .

هذا هو الخيار الوحيد المتبقي أمام الأردنيين للحفاظ على الأردن و الأردنيين وعلى سلامة المجتمع و الدولة وقدرتهم على الاستمرار و العطاء

*مفكر وسياسي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. شيء واحد يمكن ان يعدل الوضع في الاردن وهو انتخابات صحيحة وان يقوم الحزب الفائز بتشكيل الحكومات وان يتراجع دور الملك التنفيذي الى دور حامي للسلطات ليس الا كما في بريطانيا والدول اللي بتفهم.

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى