السجادة / يوسف غيشان

السجادة
سجادة صديقتنا شادية، مربع مكتظ بالألوان والخرابيش والبرابيش ، تذكرني بطبيخ الشحاذين وبتلك البيارق مختلطة الألوان التي كان يعلقها صيادو طائر الشنار البرّي حتى تلفت أنظار أسرابه ، فتحط قربها على سبيل الفضول( كان هذا قبل إن ينشر ديك تشيني أنفلونزا الطيور).
شادية لا تأبه لتعليقاتنا الساخرة على مربعها العجيب، لإبل إنها قررت ،وفي اجتماع سري مع دماغها، تجديد أثاث البيت حتى يتناسب مع فانتازيا ألوان سجادتها العتيدة ، لكنها، وعلى سبيل اختيار القماش المناسب ( تخمّعت ) في جميع المحلات لكنها لم تجد ما يناسب سيمفونية ألوان سجادتها السحرية
هنا جاء دور زوجها صديقنا هيثم، الذي كان عليه أن ( يعتل ) تلك السجادة ،لكأنه سمعان القيرواني الذي حمل صليب المعلم ، ويدور بها على المحلات حتى تفرشها شادية على أرضية المحل ، وتعاين الألوان المناسبة على الطبيعة.
بعد زيارات مكوكية متعددة غطت المنطقة التي تقع بين خطوط عرض 30 إلى 36 شمال خط الاستواء، وبعد ان تركت السجادة وشوما لن تمحى عن ظهر صديقنا ‘ اختارت شادية القماش المناسب .
لكن، وبعد تحويل القماش إلى كنبايات وبرادي وتوزيع بقية الأثاث فوق السجادة اكتشفت أم الشوش ان هذه الألوان لا تتناسب تماما مع بساطها غير الأحمدي ، فصارت تتفشش في اللوحات الأصلية المعلقة حيث عمدت إلى تغيير بعض الألوان فيها حتى تتناسب مع شراشيب مربع برمودا .
ثم غيرت المستورة دهان البيت بما يتناسب مع الوضع الجديد، وغيرت لمبات الكهرباء ومنافض السجائر وفأرة الكمبيوتر وزرفيل الباب، إلا أنها لم ترضى تماماً عن هارموني الألوان كما تجلى في دماغها.
وبموقف بطولي من هيثم، رفض بإباء وسؤدد عتل السجادة مرة أخرى لشراء قماش جديد فاضطرت أم الشوش إلى القبول بالأمر الواقع خشية تمرد أسري يطال سلطتها شبه المطلقة ، سيما وإنها كانت قد أجهزت على كامل تعويضاتها وتحويشة العمر ، فصار هامش المناورة لديها أوسع قليلاً من ثقب الإبرة.
صالون شادية الآن يصلح لكل شيء عدا الجلوس فيه براحة ،سيما وإنها تراقب الموجودين بعينين ذئبيتين خوفاً على تحويشة العمر المدروزة جيداً ، أما إذا تشجعت وأوقدت سيجارة فسوف تتعرض إلى مراقبة لصيقة، لكأنك مارادونا ، وإذا تيست معك ووضعت رجل على رجل، وإذا لم تضع ساق على ساق ، وإذا اتكأت أم لم تتكيء ، إذا قمت أم جلست إذا صمت أم ثرثرت ، إذا شربت أم عطشت، فأنت موضع شك وارتياب، مع احتمال تعرضك إلى قصف جوي بالشباشب والأسلحة العابرة للعمارات.
لذلك اضطررنا نحن الأصدقاء إلى الاكتفاء بالجلوس في المطبخ أثناء عمليات الجلي الدائمة ،المنوطة غالبا بهيثم ، ومشاركته متعة ( ابعد عن الشر وغني له ) .
تخطط شادية حاليا للشروع بخطة ثلاثية تهدف إلى إلغاء السجادة وإعادة تحميل الأثاث والبرادي واللمبات والأبواب والطاولات بألوانها المتناقضة على ظهر صديقنا ، وفردها في المحلات ، لعلها تعثر على سجادة جديدة تناسب أثاثها ،الذي يبدو لكأنهم انتشلوه للتو من أنقاض التايتانيك.لم يحدث هذا بعد، لكنه سيحصل عاجلا أم آجلا وقبل أن نحرر شبرا واحدا من ترابنا الطهور، لأن شادية (مش قليلة).
لكنها ، وبعيد استقرار السجادة الجديدة على بلاط البيت، سوف تكتشف شادية أن عليها تغيير ألوان اللوحات الفنية مرة أخرىـ وإن عليها تغيير ألوان براغي خزانة التلفزيون ، ومفاتيح الفيديو، وربما تضطر إلى منع كل من يرتدي ملابس كحلية اللون من اجتياز عتبة الصالون ، ولن يهدأ لها ولا لنا بال إلا بعد أن تغير كامل الأثاث القديم بقضه وقضيضه حتى يتناسب أكثر مع ألوان السجادة الجديدة، وهذا ما سوف يجهز على كامل تعويضات هيثم و مستحقات ضمانه الاجتماعي لعقود تلي ، فيما تستمر دورة حياة شادية بين السجادة والأثاث مرة أخرى وأخرى، حتى يجيئها هادم الملذات ومفرق الجماعات.
(اللي عقّب ما مات ) يقول المثل،وشادية ليست فردا معزولا و مجرد (نهفة)نتداول قصصها على سبيل النوادر والغرائب ….بل أن شادية وطن وشعب ونتاج مجتمع يفكر بهذه الطريقة ويحلم بهذه الطريقة ويخوض معاركه بهذه الطريقة ويكره ويحب ويعيش ويموت بهذه الطريقة .
شادية الفرد تقع (فصحناتها) على رأسها ورأس زوجها ورؤوسنا نحن أصدقاء العائلة ، أما شادية الحكومات فإنها( تتفنطز) و (تتمطعز) فيما تقع جميع الأضرار المعنوية والمادية على رؤوسنا (نحن الشعب الكريم)، بينما تستمتع شادية الحكومات بحمّى المغامرة والمتاجرة والتغيير والتخريب والترهيب والترغيب .
شادية الحكومات تضع خططا ثلاثية وخمسية وعشرية وقرنية ، تغير فيها الاستراتيجيات قبل التكتيكات، وتقوم بتلبيق سجادة الحكومات على مصالح الشعب ،ثم تقوم بتعديل (مصالح الشعب) لتتناسب مع سجادة الحكومة .. ولا يهم إذا كسرت لآمبة هنا ، وأطاحت بتمثال هناك .. وإذا أغلقت بابا هنا وفتحت شباكا هناك ، أو إذا استبعدت وزيرا هنا وثبتت وزيرا هناك!!
شادية الحكومات تفتعل الخلوات ، وتصرف عليها الملايين ( قد تكون الخلوة لإعداد دراسات وتوصيات من اجل توفير نصف مليون على صندوق المعونة) … لكن الحكومة بعد فترة تكتشف بأن تلك الدراسات والتوصيات لم تعد تناسب الواقع ، فتحاول تعديل الواقع ليناسب التوصيات .. وإذا لم تزبط الأمور تقوم بابتكار خلوة جديدة تصرف عليها الملايين من اجل تعديل التوصيات التي تسعى إلى توفير نصف مليون من مصروفات صندوق المعونة(مثلا)… وهكذا دواليك ودوالينا .
أما شادية الفرد فزوجها وتناقص الأموال كفيل بها!!
أما شادية الحكومات فنحن كفيلون بها !!
من كتابي(مؤخرة ابن خلدون)الصادر عام2006

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى