الخدعة الكبرى / د. هاشم غرايبه

الخدعة الكبرى

{” إنه ثمن معقول من أجل الديمقرطية ” كانت هذه إجابة ” مارغريت تاتشر” عندما سئلت عن جدوى التضحية بحياة آلاف الأطفال العراقيين في قصف وحصار العراق .}
لم يحظَ مفهوم بالقداسة والتبجيل ، مثلما حظي به مسمى الديمقراطية ، فقد حُمّل أثقالا من زينة القوم من معاني الصلاح والفلاح والعدالة ، فبات إلها يُعبد عِجلاً له خوار ، وتقدم إليه القرابين البشرية تبرُّكا وتقديسا .
ولد المصطلح في القرن الخامس قبل الميلاد للدلالة على النظم السياسية الموجودة آنذاك في ولايات المدن اليونانية ، وخاصة أثينا ، ويعني “حكم الشعب ” والمصطلح معاكس لـ) أرستقراطية) وتعنى ” حكم نخبة “. بينما يتناقض هذان التعريفان نظرياً ، لكن الاختلاف بينهما قد طمس تاريخياً ، فالنظام السياسي في أثينا القديمة ، على سبيل المثال ، منح حق ممارسة الديمقراطية لفئة النخبة من الرجال الأحرار واستُبعد العبيد والنساء من المشاركة السياسية . وفعلياً ، في جميع الحكومات الديمقراطية على مر التاريخ القديم والحديث، تشكلت الممارسة الديمقراطية من فئة النخبة حتى منح حق العتق الكامل من العبودية لجميع المواطنين البالغين في معظم الديمقراطيات الحديثة من خلال حركات الاقتراع في القرنين التاسع عشر و العشرين .
ترى هل تحقق فعلا حكم الشعب ؟ ، وهل التطبيق أدى الى ذلك أم أنها توقفت عند حرية الإنتخاب ، وظلت النخبة هي التي تحكم فعليا ؟، لنفحص الوقائع :
حتى القرن التاسع عشر ، ظل نظام الحكم في أوروبا يتألف من تحالف العائلات الملكية والنبلاء (الإقطاع ) والكهنوت ، فيما ظل الشعب مهمشا ومستغلا ، بعد الثورة الصناعية ونشوء الحركات النقابية للدفاع عن مصالح العمال ، بدأت التشريعات بالتطور بضغط من الذين يتوقف عليهم دوران حركة الإنتاج ، ومن الطرف المستفيد الذين هم أصحاب رؤوس الأموال ( النبلاء والإقطاعيون ) ، والذين تمكنوا بفضل تعاظم ثروتهم من السيطرة التامة على عنصري الدولة : الطبقة الحاكمة والشعب .. هكذا نشأت الرأسمالية .
قوننت الرأسمالية وجودها باللعبة الذكية المسماة بالديمقراطية ، بداية قضت على أسطورة أن العائلات الملكية هي سليلة الآلهة ، فتغيرت أنظمة الى النظام الجمهوري ، وبقيت أخر ملكية لكنها أصبحت كالراية مقيدة بسارية ، تحترم لكن لا دور لها ، أما الشعب فابتدعت له ملهاة الإنتخابات ، التي ينتهي دوره بانتهائها ، ولا حق للناخبين في المشاركة في القرار والذي يبقى محكوما ومن طرف خفي بمصالح ممولي حملات المرشحين .. أي كبار الرأسماليين .
إذن ما الذي تغير عدا عن الخوف من عدم نجاح الرئيس في المرة القادمة ؟.. ذلك أمر يسير ، فالمال والنفوذ كفيلان بتغيير الرأي العام .
وهكذا فما زال التحالف المتسلط على رقاب البشر هو ذاته ، لكنه أصبح يلبس رداء قشيبا ، وظل استغلال سذاجة البشر قائما ، تماما مثلما تداري السيدة المتسوقة من المتجر إبنها الذي يصرخ طالبا سلعة معروضة ، تناوله إياها فيحملها وهو يجلس في عربة التسوق فرحا بتحقيق مطلبه ، لكنها عند الحساب تعيدها ولا تحاسب عليها ، في النتيجة الطرفان راضيان ، الطفل باستجابة أمه له ، والأم لم تخسر شيئا وظل قرارها كما هو .
لا أقصد مما أسلفت أن أقلل من فوائد الديمقراطية الحقيقية ، بل أود كسر بعض التابوهات المقدسة المفروضة علينا ، أولها :سياسيا ان الديمقراطية الغربية هي الخيار المثالي ، ثانيها : إقتصاديا أن الرأسمالية هي الحل الأمثل ، وثالثها : إجتماعيا أن الحريات الإجتماعية في النموذج الأوروبي هي ما يحقق العدالة وحقوق الأنسان .
هذه مغالطات ثلاث تمكن التسلط الغربي من زرعها في عقول أشباه المثقفين عندنا ، فغدت لديهم من المقدسات التي يحظر مناقشتها ، ناهيك عن رفضها .
لن أقترح البديل وهو الخيار المستنبط من خصوصيتنا الحضارية ذات الجذور المختلفة ، فذلك يحتاج الى إسهاب وتفصيل ، سأعرضه بإذن الله مستقبلا .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى