الحلقة الخامسة رواية غربة سلطان العجلوني / محمد نواف العودات

الحلقة الخامسة
رواية غربة سلطان العجلوني
الكاتب محمد نواف العودات
جلبة وصوت في داخل البيت ، دموع رقراقة تذرف من عيون أمه وهي تضرب الكف بالكف أصوات الإسعاف تطغى على تعليق المذيع لون الدم يلطخ جدران المسجد الأقصى، أدرك سلطان أن هناك مذبحة ارتكبت بحق المصلين في ساحات المسجد ، المذيع يكرر الخبر العاجل مستوطن إسرائيلي يمسك سلاحه الناري ويطلق النار على المصلين وهم سجود يرتقي منهم عشرات الشهداء ويسقط الكثير من الجرحى ، الدماء تغلي في عروق سلطان كماء ساخن يطوي في القدر، انهمرت عيونه بالدموع الحارقة فزع إلى الشارع يجري ، لون الدماء أشعل صدره المتقد جمرا ، مشاعر الثار تضطرم في داخله ، يصرخ في نفسه وهو يجد الخطى إلى المجهول كل الكلام والخطب والمظاهرات وحرق والأعلام ليس إلا طحنا للهواء والماء ، وجد نفسه أمام بيت صديقه عماد امسكه من قميصه ، لماذا أنت خائف المسجد الأقصى مصبوغ بالدماء ، وعماد مشدوه من تصرف سلطان ، تركه يفرغ كل ما بداخله وقبل أن يكلمه أدار سلطان ظهره له وهام على وجهه في الطرقات قطع على سلطان شروده شيبة نحيل الجسد ابيض الشعر ابيض اللحية يتوكأ على عصا متعرجة .
العجوز : ذبحوهم في المسجد ذبحوهم يا ولدي

سلطان: لا يغسل عارنا إلا الدماء
العجوز: الكل نيام
سلطان : الجميع لا خير فيهم
مضى الشيبة في طريقه والأفكار تعصف في رأس سلطان وجد نفسه يطرق باب بيت عماد مجددا .
أم عماد : أهلا بسلطان أخبار اليوم تقطع القلب اليهود قتلوا المصلين في القدس عماد في الداخل يتابع الأخبار
سلطان : وهل من أخبار إلا منظر الدماء ؟
خرج عماد من داخل الغرفة ضوء الشمس ساطع انحسر بصره وأغلق جفونه
سلطان: الوضع لم يعد يحتمل وأنا هنا لأضع حد للتراخي الذي نعيشه
عماد : أنت أحمق مأفون

سلطان: قل ما تشاء المهم أن نبدأ بشيء مفيد ينصر أهل فلسطين
عماد :نعم الأمر لم يعد يحتمل هذا صحيح واليهود أسرفوا في القتل وأهلنا في فلسطين بالداخل لا يوجد لديهم من يمدهم بالمال والعتاد،علينا يا سلطان أن نشكل نواة لعصابة تقض مضاجع الصهاينة نحارب اليهود ونضعضع حياتهم كل شيء في وقته يثمر ، هذه الثورة التي في صدرك نريدها أعمال تهز العدو وتزعزع أمنه لا نريدها حشرجة عواطف تتلاشى عند أول صدمة بالواقع ، سنكون عصابة لمقاتلة الاحتلال الصهيوني نواتها يا سلطان موجودة عندي إن أنت رغبت بالانضمام إلينا .

سلطان: لقد فاجأتني بما تقول …..بالتأكيد أنا راغب ،ادعوك أنت وباقي أعضاء الخلية التي تتحدث عنها إلى العشاء عندنا في البيت ، احضروا معكم كتب أوهموا أهل البيت أننا ندرس .

أم سلطان بالداخل تعد أطباق العشاء ، رائحة زيت السردين تملأ ممر البيت وأقراص الفلافل في طبقها تستثير النفوس الجائعة ، لم تمتلك أخت سلطان ضبط نفسها امتدت يدها إلى الأطباق التفتت أم سلطان خلفها .
ام سلطان : لا اشبع الله بطنك يا بنت دعيه من يدك كفي عن الأكل الضيوف ضيوف الرحمن
البنت : نحن لا احد يهتم بضيوفنا
أم سلطان : أنت بنت
البنت : وهل الولد غير البنت ؟!
أم سلطان :كفي عن الكلام وحضري باقي الأطباق أنت لا تجيدي إلا معزوفة التذمر .

وقفت أم سلطان على الباب تنادي سلطان، أخفى عماد وصديقه ما بحوزتهم من أوراق تحت مجلسهم وتظاهروا بالقراءة نهض سلطان ليتناول طعام العشاء تحمل أمه الطبق المصنوع من القش بألوانه المزخرفة محملا بأصناف الطعام وأيديها ترتجف
أم سلطان : خذ بسرعة لا أقوى على حمله وإياك أن ينسكب الزيت

سلطان : لا تأخروا الشاي
التفتت أم سلطان إلى داخل الغرفة حملقت في الوجوه ، وجوها غير الوجوه التي كانت تراها
سلطان :هؤلاء أصدقاء مدرسة والآخرين أصدقاء حي
أم سلطان :قلبي غير مرتاح لهؤلاء لا اعلم لماذا ؟

سلطان :أنت تعلمي عني كل شيء وها أنت تحفظي الوجوه أيضا
أم سلطان :انتبه لنفسك يا سلطان وإياك ورفاق السوء.

اقفل سلطان الباب خلفه واخذ يسكب من الإبريق وعبق الشاي يفوح في أرجاء الغرفة ، تململ احمد ململة الخجول واسند ظهره على مسنده الصوفي ونظر إلى عماد برموش ناعسة ،عماد يعرف أن هذه طبيعة صديقه احمد يؤثر السكوت على الكلام فالرجل رجل أفعال لا أقوال ، جمع سلطان شراشف البلاستيك الرقيقة بما تحمله من سقط الموائد إلى المطبخ عاد وأغلق الباب جلس صديقه عماد جلسة المتعلم وبسمل واخذ يحدث رفاقه عن شر اليهود الذي قد استطار ولم يبقى بيت مدر ولا وبر في فلسطين إلا طاله عدوانهم واصفا إياهم باللقطاء في ارض الإسراء ، مذكرا إياهم أن الجميع في سبات عميق حاثا لهم بأنهم إن لم يتحركوا فمن يتحرك ؟ مذكرا سلطان أن لا يستبق الأحداث فهم يحتاجون للصبر والروية .
يقطع سلطان الحديث مستغربا حديث صديقه عن الصبر فهم مشاريع شهداء وطلاب شهادة ولا شيء غير الشهادة ، عماد يذكره بأنه ليس المهم أن يموتوا شهداء المهم دحر العدو ومن ثم الشهادة النصر أولا والشهادة ثانيا العيش في سبيل لله أهم بكثير من الموت في سبيل لله ،احمد يتململ تململ الأفعى في أشهر الكوانين ، فقد أغرقه طول الجلوس فالفراش واثر وصوفه يبعث على الخمول ، سلطان غير مرتاح إلى برود احمد يشعر أن احمد لا يريد أن يشاركهم ، يكاد أن ينفجر به ويطلب منه أن يغادر مجموعتهم ، أدرك عماد من نظرات سلطان ما يدور في خلده ، تدخل بذكاء وأدار دفة الحديث من جانبه بعد أن أثارت نظرات سلطان لأحمد امتعاضه مؤكد لسلطان أن احمد أكثرهم حماسا لكنه يؤثر الهدوء والتفكير والتخطيط نحن نتحدث وهو يفكر ستجد منه عزما عند التخطيط والتنفيذ .
سلطان : لنبدأ….هل لديكم سلاح هل انتم متدربون على السلاح
عماد : قبل السلاح لا بد أن نحدد هدفنا أولا من نجاهد والى أين نريد أن نصل
سلطان : كلامك يثير السخرية يا صديقي طبعا نقاتل الصهاينة نريد أن نحرر البلاد
عماد : إجابتك سطحية تثير السخرية أيضا
تلاحى سلطان ورفاقه تجادلوا اشتد الحديث بينهم حتى وصل إلى التجريح وسلطان لا يتوقف عن الكلام منتفخ الأوداج محمر الوجه وكان الدم ينفذ من وجهه
عماد : أرجوك افهمني يا سلطان إسرائيل أصبحت دولة قوية وأعمالنا التي ننوي القيام بها لا تهزم دول لها من السلاح والعتاد الكثير قد يكون الكلام محبط لكنه الحقيقة .
تدخل احمد وخرج عن صمته .
احمد :أنا أؤيد كلامك يا عماد لا يمكن لنا كمجموعة شباب أن نهزم دولة مثل إسرائيل أفكارنا بسيطة وطرحنا سطحي .
استشاط سلطان غضبا ووقف من مجلسه وقد تنجصت عيونه من رأسه
سلطان: من البداية اشعر انك لا تريد أن تكمل معنا والان جاءك ما يفرج كربك لا نريدك معنا لكن لا تزيدنا خبالا ولا تقطع عزم مسيرنا واكتم أمرنا بعد مغادرتك .
احمد : اسمح لي بالخروج يا سلطان افتح لي الطريق ، مشكلتنا يا عماد مع صديقك انه يتعقد أنه لا يوجد من هو أكثر حرصا واهتماما منه ، لا يمكن أن انسجم مع من هو بأسلوب صاحبك فهو متهور ولا يفكر ابعد من انفه أنا لا أريد العمل معكم اسمعها يا سلطان مني صراحة .
سلطان : عجيب أمرك يا احمد الشجاعة وحب الجهاد أصبح تهورا
تدخل عماد بعد أن اشتد النقاش واحتد بين الطرفين وخرجت أصواتهم خارج الغرفة فخشي أن ينكشف أمرهم للأهل أشار إلى الجميع بخفض الصوت .
عماد: نحن نريدك يا سلطان أن تفهمنا ، أنا واحمد نعمل بصمت وهدوء منذ وقت ونريد أن نحدد ماذا نريد ، ونتروى في أي عمل نقوم به أو نخطط له، أنت تريد القتال لكن دون فهم ولا تخطيط فهذا عمل أعمى قبل أن يبدأ ، سكن غضب قليلا سلطان وعاد الجميع إلى مجالسهم .
الأم تتأفف فقد طال جلوس رفاق سلطان والوقت تأخر والجميع يريد أن ينام تشعر أن الوجوه التي في الداخل ظلها ثقيل ولا يراعوا ظروف الناس وصغر البيوت .
سلطان سمع بعض عبارات التذمر التي تلقى على مسامع أصدقائه خرج سريعا وهو يطلب من أمه أن تسكت ولا تفضحه في ضيفه ، عاد سلطان إلى المجلس بعد أن أغلق الباب وأسهب يشرح صرامة أمه بالبيت وتتبعها أخباره وإدامة تحريض والده عليه من اجل الدراسة ، طرق خفيف بصوت خافت على الباب قام سلطان مسرعا إلى الباب أخته تختلس النظر إلى الداخل وسلطان يحجب بجسده مدخل الباب وجه جديد يبدو اكبر من سن سلطان ، أشارت إلى سلطان أن العائلة تريد النوم هيا انهي المجلس .
شعر الضيوف بثقل مجلسهم على العائلة قسموا المهام بينهم بسرعة وتواعدوا على مجلس أخر وخرجوا على عجل واستحياء.
البنت : عماد عرفته .. لكن الوجه الأخر من؟ أنت لا تدرس يا سلطان
سلطان : كفي عن الكلام وإلا كسرت راسك
البنت :لن تسكتني بالتخويف والوعيد ، ما اسم أصاحبك ؟
سلطان: وما يهمك من اسمه ، وكيف تسترقين النظر إلى الضيوف
ثم دفع أخته بقوة فسقطت على الأرض وكاد أن يرتطم رأسها بالحائط
ترقرقت الدموع في عيونها وفاضت تنسكب على خديها، رق قلب سلطان إليها وجلس إلى جانبها وجال بخاطره أنها أيام ولسوف يكون من الذكريات لديها ، لا بد من إحسان المعاملة معها .
البنت : ستكون أخر مرة أسامحك فيها .
هز سلطان رأسه واطرق مليا في كلمة شقيقته ،وقال في نفسه نعم الأيام اقصر من أن نخطئ بحق بعضنا البعض ،أيام ولسوف أحط رحالي شهيدا في فلسطين .
سلطان يخرج من متوضأ المسجد أكمامه وشعره مبلل يصطف في الصفوف الأخيرة يسلم الإمام وعيون سلطان تجوب أرجاء المسجد يتصفح الوجوه يبحث عن أصدقائه ، تصافحوا وخطوا أدراجهم ، احمد أثنى على دقة المواعيد التي تحلى بها الجميع وان الدقة في التنفيذ واحترام المواعيد جزء أصيل لإنجاح عملهم ، قدم احمد الضيافة بكاس شاي متخصر الوسط مذهب الحزام رقيق البنية وعبق الشاي يفوح في الأنوف ، اتفق الأصدقاء على تسمية خليتهم وعلى تقسيم المهام بينهم ووضعوا أهدافهم بجمع المال وتأمين السلاح وزيادة أعداد الخلية لتتمكن من القيام بأعمالها واسندوا إلى سلطان أمانة سر الخلية ولعماد مهمة زيادة عدد الأعضاء ولأحمد قيادتها..

الطريق إلى بيت سلطان طويل بعد أن أنهى اجتماعه ، رأسه يشتعل بالأفكار يفكر في كلمة احمد ، كيف أن بعض المجاهدين حمل سكينا وتعدى به إلى ضفة النهر الأخرى وقاتل واستشهد يقول بينه وبين نفسه مالي وأمانة السر أريدها شهادة وأشار إلى صدغه ، يدور حوار صاخب بينه وبين نفسه لكن احمد يخطط إلى عمل منظم مستمر ، يردف بالقول بسره ومالي ومال الاستمرارية أريدها شهادة مكانها الفردوس الأعلى من الجنة ، يهتف في نفسه صوت أخر نعم ليس الهدف الوحيد دخول الجنة وان كان الهدف الأسمى ولكن تحرير البلاد وإزاحة الاحتلال أيضا هدف سامي ونبيل ، بينما هو شارد في التفكير إذ يلقي عليه ابن الجيران تحية السلام يلوذ به يبحث عن أنيس يوصله إلى بيته بعد أن أجبره والده أن يبتاع له علبة من الدخان في هذا الظلام لحالك يمشي الولد إلى جانب سلطان بأمن بعد أن زال منه الخوف ، سلطان يعاود التفكير والشرود نعم القتال أريد وبأقصى سرعة ولكن لا مال ولا سلاح لدي ومتى ما توفروا سوف أعاجل اليهود بالقتال يحدث نفسه ما عليك إلا الصبر يا سلطان .

أعصر نهار يوم الجمعة وبعد أن تناول أهل سلطان طعام الغداء خلد معظمهم إلى الراحة الجو مشبع بأنفاس التثاؤب، ضجر الفراغ يكتنف الأجواء سلطان تمتلكه بالكامل فكرة الجهاد وتحرير فلسطين والشهادة يعيش في غير عالمه الذي يعيش قلبه معلق هناك في الغرب حيث قبة الصخرة والمسجد الأقصى وعذابات الأهل في فلسطين ، سلطان يزفر أنفاسا حارة تخرج من موقد صدره الملتهب جمرا حرورا ،أحضر حصالته المزينة بصور المجاهدين من أهل فلسطين الذين قدموا أرواحهم فداء لأرض فلسطين حصالته التي جعلت منه مزعج لوالده وأهل بيته فكلما حل عليهم ضيف من الأقارب يبقى يبالغ سلطان في الإلحاح حتى يحرج الزوار ويحصل على بعض النقود يضعها في هذه الحصالة ، الأم كانت مستاءة من تصرفاته وإحراجها مع الضيوف والأقارب وكانت تكرر دائما مقولتها بان دلال والده أفسده وجعله يتزبب قبل أن يتحصرم ويتجلبب بأثواب اكبر من عمره .

النقود التي جمعها سلطان ورفاقه لا تكفي كانوا يطيلوا الجلوس للبحث عن مصادرا للتمويل تتداول الأفكار للبحث عن البدائل المتاحة بعد أن فشل أسلوب الجمع ، فبضعة من الدنانير لا تكفي لشراء قطعة سلاح واحدة ، السلاح نادر والحالة الاقتصادية للناس المحيطين صعبة والجهاد يحتاج مالا وسلاح وكلاهما غير متوفر أخذت الأفكار تجول بسلطان وصحبه في تامين البديل للحصول على السلاح فهذا هو الهم الأكبر لهم ، توقفوا عن زيادة الأعضاء في خليتهم ، الواقعية تسير بهم إلى سؤال واحد لما التنظيم والاستقطاب وتكديس العناصر إن لم يكون هناك مال وسلاح ولا يمكن الاستفادة من تلك الطاقات المتحمسة، يقلبون الأفكار في البديل توصلوا إلى فكرة التواصل مع السفير الفلسطيني في عمان فهو ابن القضية وهو رمز سيادتها وان تحرير فلسطين هو هدف كل حر شريف يقنعون أنفسهم بأنه سوف يساعدهم لكنهم تراجعوا عن ذلك .
سلطان لا يكل لا يمل في بحث دائم يستغرق كل أفكاره ، نفسه عازفة عن الطعام تفكيره شارد ، يحول بينه حائل المال في الوصول إلى فلسطين حيث الشهادة والاستشهاد ، في كل يوم وفي كل لقاء يجمعه من رفاقه يتداولوا الأفكار يقلبوا المواقف لا بد من توفر المال، يرون أنفسهم مكبلي الأيدي وفلسطين على مرمى حجر منهم، اقترح احمد أن يتواصلوا مع الشيخ التميمي رئيس الجهاد الإسلامي عله يكون بوابة لسد حاجتهم المالية أو يفتح أمامهم أفقا جديدا في طريق الجهاد ، اخذ سلطان على عاتقه التواصل مع الشيخ التميمي ، نقل هاتف البيت إلى مجلس الضيافة وأغلق على نفسه الباب بسرية كمراهق يريد أن يخلوا بمعشوقته همس على الهاتف رد عليه احد أبناء الشيخ ، عرفه سلطان بنفسه بكلمات مقتضبة وانه يمثل مجموعة أفراد ويرغبون بلقاء الشيخ ، الرد كان من الشيخ يفيض بالود والترحيب والمحبة أغلق سلطان الهاتف واخذ يتراقص فرحا أعاد الهاتف إلى مكانه بهدوء وخرج مسرعا إلى رفاقه ، الفرحة تتراقص في عيونه وبريق الأمل يتقاطر من وجنتيه ،اخبرهم بما جرى على الهاتف يضع في جيبه عنوان الشيخ في عمان .

نسقوا موعدهم وامنوا أجرة الطريق إلى عمان بشق الأنفس،ثم انطلقوا وهم يطلقون قهقهات الضحك يسخرون من أنفسهم (مجاهدين لا يملكون أجرة الانتقال ويريدون أن ينقلوا الجهاد إلى ارض فلسطين )، في غمرة القهقهة والسخرية دارت ماكنة المركبة تقلهم إلى عمان ، خيم جو الجدية الخطوات مشوبة بحذر والجو يبعث على الخوف، لا يعرفون طبيعة الشيخ ولا مدى تحمسه لمشروعهم ، استقبلهم خادم المكتب من على الباب برهة قصيرة خرج إليهم الشيخ وهو يردد في تحية الترحاب، شيخ معمم كث اللحية ببياض ناصع نظارات سوداء يتحدث ببطء وهدوء ويكثر من الترحاب بين الحين والآخر، اخذ الشيخ يحدثهم عن نفسه عن والده الذي كان مقرب من الحاج أمين الحسيني ، حدثهم عن دراسته في الأزهر عن عمله خطيبا للمسجد الأقصى عن انتقاله إلى عمان وسلطان يكتم أنفاسه ويستل بأصابعه خيوط قماش الكرسي الذي يجلس عليه بضغط بشدة على أعصابه ، اخذ الشيخ يسرد لهم طبيعة علاقته مع القيادات الفلسطينية وضرورة تعاضد كل الجهود للتخلص من الاحتلال وسلطان يحدث نفسه أي مسلك خاطئ سلك هو ورفاقه على ما يبدو فقد جاءوا للعنوان الخطأ ، سلطان من المقدمة عرف خاتمة الكتاب، يصبر نفسه عله أن يكون انطباع أولي مخادع سرح سلطان بخياله بعيدا قطع شروده قهقهة الشيخ ورفاق سلطان ، نظر إليهم بخجل واخذ يهز برأسه وكأنه في سياق الحديث ، طال حديث الشيخ عن نفس وعن علاقته ببعض الرؤساء العرب.
سلطان وجد الفرصة سانحة بعد تلك المقدمة الطويلة التي عرضها الشيخ تحدث باقتضاب وطلب منه أن يساعدهم على النزول إلى فلسطين للجهاد هناك وان المال هو وجعهم وقاطع سبيلهم إلى ما يريدون ، حديث الشيخ كان عائم ومشتت يبتعد كثير عن طلب سلطان المباشر الذي أربك الشيخ ، تدخل ابن الشيخ الأكبر وهو يرى بريق الحرقة في عيون سلطان وأسهب الابن في الحديث عن طبيعة المعركة وأهمية التسلح بالعلم وان الجهاد الآن يكون بإعداد أنفسهم وتسليحهم بالعلم مقترحا أن ينهوا الثانوية أولا ثم يذهبوا للدراسة في الجزائر التي تربط حركتهم علاقة جيدة بالنظام هناك ومن ثم يكون الانطلاق .

انتهى اللقاء ببرود شديد وخيبة أمل من قبل سلطان فكل تلك الأمور لن تفضي إلى الشهادة التي يريدها ، صوت الخطيب لا زال يرن في أذانه كجرس وهو يردد حديث النبي عن الأعرابي الذي اسلم فصدق الله فصدقه الله وعاجلته رمية في نحره،الشهادة هي المبتغى هي بيت القصيد وهي مربط الخيل وهي قبلة الخلود ، يحدث نفسه بأنه لن يغرق نفسه في برود حركة الجهاد وفلسفة المقاومة لديهم ولن يصبر كثيرا في بعده عن كلمة ( صدق الله فصدقه) .

المركبات هرمة تعاني وهي تشق عباب الطريق إلى المفرق الشحوب يكسو وجه سلطان ، النوم فر من بين عيونه ، التعب أنهك جسده النحيل المتهالك ألقى بنفسه المنهكة في فراشه يحاول عبثا أن يخرج من سيطرة التفكير الدائم وان يسلم نفسه لغفوة تعاجله لكن دون جدوى.

في زقاق الحي وأمام البقالات يجلس الشباب يتحدثون يتراهنون وسلطان ورفاقه يسطرون الخطوات الحائرة باحثين عن الخلاص بعد أن اصطدمت أحلامهم في صخرة شح المال ، هفت كلمة من فم احمد عندما قال بان السلاح موجود لكن من أين لهم بالرصاص انتفض سلطان وسرت قشعريرة الأمل في جسده ، سار سلطان مع احمد إلى بيته من غير وعي طلب من احمد أن يريه السلاح ، احمد متردد لكنه كان يدرك انه ورط نفسه مع حماسة سلطان واندفاعه، احمد استبق رفيقه إلى البيت ، تسلل سلطان بخطوات عجولة ونفسه تتقطع شوقا إلى لقاء السلاح ،اخرج احمد قطعة بيضاء من القماش من سقف الخزانة ووضعها خلف ظهره دخل بها الغرفة وقف سلطان امسك اللفافة أخذ يكشفها بهدوء تبدى لون المسدس الأسود الداكن ببعض النقاط الفضية منثورة على مقبضه فضمه إلى صدره ، احمد يلح عليه أن يهدأ وان يكف عن الاندفاع ويخفف من حماسته فان بقي على هذا الأمر سينكشف أمرهم ، جلس سلطان على الأرض القرفصاء يثني ركبتيه بالقرب من صدره وقد اسند ظهره على الحائط واخذ يحملق في المسدس طويلا قبل فمه حتى ارتشف عبق البارود من فوهته ضمه مرة أخرى إلى صدره اخذ نفسا عميقا مسحه بجسده وقبله بحرارة ، احمد يحاول أن يسترد السلاح من يد سلطان ، لكن سلطان متشبث يرفض أن يتركه يشعر أن المسدس يريد أن يفر منه ، فهو بريق الأمل وأول خطوة على طريق الخلود .
بعد طول جدال استسلم احمد إلى رغبة سلطان وأقنعه أن يأخذ المسدس معه إلى البيت لعدة أيام وسيعيده ، وافق احمد تحت شدة الإلحاح وقسم سلطان المغلظ بإعادة المسدس سريعا ، ليلة لم تكن كغيرها يضطجع سلطان بجانب المسدس في فراشه يقبله يضمه إليه يحتضنه يدغدغ جسده المسجى من غير رصاص ، نام ليلته وهو لا يستطيع أن يرفع عيونه عن هذا الضيف العزيز ، وكأنه مراهق لا يستطيع أن يبعد عيونه عن تلك الحسناء الممدة بين يديه، غالب النوم سلطان واستيقظ صباحا وهو يقبض على المسدس بعزم .

أخت سلطان ترى حركة غير اعتيادية عليه دائما يغلق الباب خلفه يشرد كثير تحس انه يخبئ شيء داخل الخزانة الخاصة بملابسه ذهبت بها الظنون بان سلطان وقع في شراك الحب بعد أن حل أناس جدد جيران لهم ، تهز برأسها العشق لا يعرف الحواجز فهو ملك لكل الرقاب تراقب سلطان تتحرك بهدوء أمام الغرفة بعد أن يغلق سلطان على نفسه الباب تحاول أن تنظر من فتحة القفل لكن سلطان يعيش حس أمنيا شديد الحريص ، يضع أوراق المنديل في كوة الباب فزاد ذلك من شكوك أخته وحنقها فأيقنت بان سلطان يكتم سرا كبيرا،همت نفسها أن تحدث إخوانها بأمره ، لكن الخجل سرى في نفسها فقد أصبحت متأكدة أن خيوط الهوى قد اصطادت سلطان مع إحدى بنت الجيران فجمال القوام والخدود السعفاء والرقبة الجيداء والمسحة العفراء التي تكسوها والجسد المتكسر أنوثة لا بد انه أوقع سلطان في غرامها .

دراهم قليلة في كيس سلطان الملتصق ببعضه، يحاول أن يستدر عطف والده ليأخذ مزيدا من المال مصحوبا مع كل محاولات الاقتراض من الإخوة والأخوات ، السؤال يحير الكل لما يريد سلطان هذه الأموال ؟ أخته تغمز وتلمز وتلمح بان سلطان قد يكون وقع في شراك العشق والهوى وتقهقه السخرية بان أموال المدينة وأنعامها لن تشبع نهم شغاف القلب وما يقدمه من هدايا ، سلطان لا يلتفت إلى ما تقوله أخته ولم ينفه يريد أن تتأكد تلك الفكرة لدى الأهل ليخفي ما يدور في خلده وينوي القيام به .

دينار ونصف كافية لشراء بعض الرصاصات التي توصله إلى فلسطين فيقاتل يقتل ويرتقي شهيدا،خطواته حذرة إلى سوق السلاح محلات متواضعة يتأمل المحلات ويتأمل تلك القطع المعطلة عن العمل وفلسطين تأن تحت الاحتلال، دخل المتجر لم يجد ترحابا من صاحب المحل تجول ببصره وصاحبه المحل منشغلا عن سلطان في تزيين شواربه الغليظة، التفت نحو سلطان رائحة الدخان تفوح من سترته ، اخذ سلطان في تسعير السلاح والتاجر يرد عليه ببرود شديد ومع كل إجابة يدرك سلطان الفارق بين الطموح والإمكانيات المادية أسرف سلطان في تسعير قطع السلاح فاخرج التاجر عن صمته .
التاجر: ما الذي تريده بالضبط ؟
سلطان : أريد اخذ فكرة ليس إلا واشتري بعض الرصاص لهذا المسدس
سكن غضب التاجر بعد أن اخرج له سلطان المسدس حملق فيه طويلا وقلبه وهو يردد إعجابه بهذا المسدس سائلا سلطان من أين اشتراه ؟ ، تلعثم سلطان في الإجابة وتردد وصرف الكلام نحو البحث له عن رصاص، وضع التاجر المسدس على الطاولة وجلس القرفصاء يفتش بين كراتين العتاد عن رصاص لذلك المسدس، اخرج مكعب من الكرتون فتحه قرأ أسفل كعب المسدس
التاجر : لا يوجد إلا عشرين رصاصة ، كم تريد أنت ؟
سلطان : امتلك دينار ونصف .
التاجر : تستطيع أن تأخذ خمس رصاصات
اخرج سلطان المبلغ من جيبه تلقف الرصاص ووضعه في كيس وهام على وجهه في شوارع المفرق أين يواري ذلك المسدس والرصاص ؟ الوقت يضيق حان وقت التنفيذ يردد في نفسه فلتذهب كل الأفكار والمنظمات إلى الجحيم لا صوت يعلو فوق صوت الرصاص ولا عمل مقدس بقدسية الجهاد ومقاتلة الصهاينة ،شريط الحياة يمر أمامه مسرعا كأنه مسلسل يعرض في حلقاته يشعر بأنه اتصل مع عالم الآخرة والشهادة بامتلاكه تلك الرصاصات بدا يشتم عبق الشهادة تحاكي أفكاره قصص الأبطال والشهداء يشتم رائحة الدم الزكي ورائحة جرح الشهيد ، احضر كرتونا صغيرا ووضع به المسدس والرصاص احكم إغلاقه وواراه تحت درج البيت خلف الأكياس المهملة ، نكت بديه بعد أن أزال التراب عن ركبتيه تأكد أن أحدا لا يراه ودخل البيت .
يمسك سلطان الكتاب في برود ، نظر إلى أخته نظرة الطامع بذهبها وهي تزين عنقها بقلادة من الذهب أهداها لها خطيبها كمهر لها ، عرض عليها بصورة المازح ليجس نبض أخته فيما إذا كانت يمكنها أن تتخلى عن مصاغها وتتبرع به للمجاهدين في فلسطين وهو يبتسم ابتسامة صفراء حتى يبعد الشك عن نفسه ، يحس سلطان أن جميع أهل البيت يعلمون بأمره يحس انه مكشوف التحركات، أشاحت شقيقته بوجهها عنه وضمت قلادتها إليها فهي من رائحة خطيبها فقد أدرك سلطان انه سلك فجا غير الفج السليم وان أخته يعني لها ذهبها الكثير .

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى