الحرب أولها كلام / داود عمر داود

الحرب أولها كلام

تمر السياسة الدولية حاليا بتحولات جذرية لها ما بعدها. ومن يطلع على الادبيات السياسية التي أخذت تظهر، في الغرب على ألسنة النخب السياسية، التي صعدت الى قمة السلطة، في الأونة الأخيرة، يصيبه الرعب من هول ما يقولون ويفعلون. فهذه النخب تهدد بتقويض التفاهمات والأسس التي وضعتها دولها، المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، وسار عليها العالم، منذ ذلك الحين. وهي الأسس التي حفظت تماسك ما سُمى بـ “المجتمع الدولي”، خلال السبعين عاما الماضية، وحالت دون نشوب حروب شاملة، سبق وأن جلبت الويل والدمار للبشرية، نتجت عن سياسة الجشع وحب السيطرة.
التغني بألامجاد
في امريكا، يقول الرئيس المنتخب دونالد ترامب أنه سيسعى الى أن “يعيد لأمريكا عظمتها”. وفي بريطانيا، التي قررت للتو الخروج من الاتحاد الاوروبي، أعلنت حكومتها بكل صراحة عن نيتها العودة الى ماضيها الاستعماري، بعد أن عبر الانجليز عن نزعتهم الانفصالية عن اوروبا. وعليه نجد أن لغة الخطاب السياسي لديهم قد تبدلت تماما، لتتماشى مع التوجه الجديد. وغابت لغة “نحن في اوروبا” وحلت محلها لغة “نحن في بريطانيا”. فقبل أيام تحدثت رئيسة وزراء بريطانيا، تيرزا ماي، أمام حشد كبير من رجال الاعمال الانجليز والقطاع الخاص، في كلمة حددت فيها بوضوح ملامح السياسية المستقبلية الجديدة لبلادها. استهلت حديثها بالاشارة الى حجم التغييرات التي شهدها العالم، خلال عام واحد فقط، أبرزها قرار خروج بريطانيا من الاتحاد، ثم انتخاب ترامب رئيسا للولايات المتحدة.
التحرر من قيود الاتحاد الاوروبي
قالت ماي أن بلادها تهدف من وراء ترك الاتحاد الاوروبي الى تعظيم دورها الاقتصادي في العالم، موضحة ان عضويتها في الاتحاد، منذ 43 عاما، حالت دون جلب المكاسب للبلاد، فاصبح الخروج هو الحل الوحيد أمامها كي تحرر سياساتها الخارجية، فتكون قادرة على استخدام قوة وحجم اقتصادها لتنطلق مجددا تجاه باقي العالم، وتتعامل مع “حلفاء قدامى وشركاء جدد”. والملفت ان ماي اشارت الى ان بلادها “ستستعمل الحريات” الجديدة لـ “تفرض شروطها” في تعاملاتها التجارية من الان فصاعدا، خدمة لـ “كل المملكة المتحدة”، في اشارة ذا مغزى الى الاقاليم التي تتكون منها البلاد، وأهمها اسكتلندا التي تتفلت للانفصال عنها.
التلويح بالقوة الغليظة
تحدثت ماي بكل صراحة عما تهدف اليه بلادها بعد التحرر من قيود الاتحاد وقالت أن “اساس المسألة هي زعامة بريطانيا في العالم، بالقوة الغليظة وبالقوة الناعمة”. وهذا يشير الى شىء واحد فقط وهو انها تتصور ان بلادها تريد أن تتزعم العالم ولا مانع لديها من اللجؤ الى استخدام القوة العسكرية لتحقيق ذلك. وهي نفسها كانت قد قالت من قبل أمام البرلمان أنها لن تتردد في استخدام السلاح النووي إذا لزم الأمر.
وهذا هو الجانب المرعب في الأمر، ألا وهو التلويح بشن الحروب الشاملة، وهذه لغة لم يسمعها العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية الى يومنا هذا، سيما وان بريطانيا نفسها كانت من بين القوى المنتصرة التي وضعت أسس التفاهمات الدولية، الذي حال دون نشوب حروب شاملة مدمرة. وقد جاء الزمن الذي تنسحب فيه من هذه التفاهمات، وتتخلى عن سياسات اتبعتها على 70 عاما.
التنافس على زعامة العالم
اتسمت نبرة ماي بنبرة بالتعالي قائلة أنها “واثقة في مواجهة التحديات” القادمة، وكررت اكثر من مرة ان “بريطانيا تستطيع ان تكون في مركز القيادة” للعالم. ان سعي بريطانيا لتصبح زعيمة العالم مرة اخرى، والدولة الأولى فيه، سيضعها حتما في مواجهة مباشرة مع الدول الكبرى الاخرى، وأولها الولايات المتحدة التي تقول عن نفسها انها هي الدولة الأولى في العالم، ونجد رئيسها المنتخب يعلنها بصراحة أنه قادم ليعيد أجاد بلاده و”عظمتها”. وعليه ستجد بريطانيا نفسها وجها لوجه أمام قوى عالمية لا توافقها الرأي. وهذا سيعيد الأوضاع الدولية إلى المربع الأول، من تنافس على الثروات، ينجم عنه مواجهات وحروب، تجلب معها الويلات للبشر أينما كانوا.
لقد خلت كلمة ماي من تعبيرات اعتادت أذان الناس أن تسمعها حتى عهد قريب، مثل “التكامل”، “السلام العالمي”، “استقرار العالم وأمنه” وغيرها، وهي تعبيرات كانت تدل على إبقاء اوضاع العالم كما كانت. وكان اذا تجرأ أحد على طرح فكرة تمس، من قريب أو بعيد، تلك التفاهمات العالمية، كانت الدول الكبرى وأذرعها تسارع الى رميه بكافة أنواع التهم، أقلها التطرف، وزعزعة الاستقرار العالمي وتهديد السلام. وها قد جاء وقت يفعلون هم فيه ما كانوا يحرمونه على غيرهم.
شكل المستقبل
ختمت رئيسة وزراء بريطانيا كلمتها باستنهاض همم رجال الاعمال الانجليز الذين كانت تخاطبهم وقالت: “بصدارتنا وزعامتنا سنضمن الازدهار لمصالحكم التجارية، ونجاح بلدنا، ومستقبل العالم، الذي سنتركه لابناءنا. لذلك، دعونا ننتهز هذه اللحظة، ودعونا نحقق هذا معا”. لا أدري عن أي عالم تتحدث ؟ وما هو شكل العالم الذي تتصور أن تورثه للاجيال القادمة، بعد أن تكون قد حلقت في سماءه الصواريخ النووية العابرة للقارات، واسلحة الدمار الشامل؟ أي عالم تتخيل ماي أن يبقى بعد ذلك؟
الخلاصة إذن، اننا نسمع كلاما واضحا فيه دعوات مفتوحة للحرب. تبدل الخطاب السياسي، مع مجيء حكام جدد، يوصفون بالتطرف وبأنهم دعاة حرب، أثار حالة رعب اجتاحت العالم. حتى اسرائيل ربيبتهم عبرت عن قلقها من وقوع حرب عالمية نووية ثالثة، وخرج فيها من يدعو لإيجاد ملاجىء للاحتماء من السلاح النووي. وقديما قال الشاعر:
أَرَى خَلَلَ الرَّمادِ وَمِيضَ نَارٍ … ويُوشِكُ أَنْ يكُونَ له ضِرامُ
فإِنَّ النَّارَ بالعُودَيْنِ تُذْكَى … وإِنَّ الحَرْبَ أَوَّلُها كَلامُ
وإِنْ لَمْ يُطْفِئهَا عُقَلاءُ قَوْمٍ … يكونُ وقودَهًا جُثَثٌ وهامُ
فهل بقي في العالم عقلاء يطفئون نار الحرب؟
داود عمر داود / محلل سياسي
daoud@shorouq.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى