الدارونية في الفكر العربي المعاصر / د أيوب ابودية

الدارونية في الفكر العربي المعاصر

  في معرض التساؤلات إذا كانت الدارونية معارضة للدين، ترجم إسماعيل مظهر (1891-1962 م) كتاب تشارلز داروين “أصل الأنواع” عام 1918 في نحو 800 صفحة، وكتب مقدمة طويلة من مئة صفحة شرحاً وتفصيلاً وتأريخاً لها. وربما يعود ميل إسماعيل مظهر لنشر نظرية التطور لدراسته في إنجلترا لعلوم الأحياء التي جعلت شرحه للنظرية ضرورة يقتضيها العلم الحديث حيث أصبحت كافة جنبات نظرية التطور متداخلة في معظم الفروع المعرفية والاتجاهات الفكرية على اختلافها، سواء في العلوم الطبيعية أم في العلوم الاجتماعية. وقد حاول تطبيق نظرية التطور على الدين نفسه بوصف الدين ظاهرة اجتماعية تاريخية. فهل كان إسماعيل مظهر حيادياً؟

        إن المثير في اعتقاد إسماعيل مظهر بمذهب داروين أنه كان باحثاً صادقاً يتحرى الحيادية، مما جعله يوجه نقداً صريحاً لاثنين من المفكرين على وجه التحديد، هما الطبيب شبلي الشميل والمفكر جمال الدين الأفغاني، فكما يقول في مقدمة كتابه: “لما كان لأولهما من الأثر في نشر المذهب الدارويني مشبعاً بالرأي المادي، ولما كان لثانيهما من الأثر في العمل على نقض المذهب، قضاء لمعتقده من “أن نشر هذا المذهب قد يفسد من طبيعة الشرقيين وتقاليدهم أكثر مما ينفعهم”. وهذا الاعتقاد الأخير يبد أنه ما زال سائداً في أيامنا هذه.

        يمكن القول إن جمال الدين الأفغاني (1838-1897 م) تصدّر قائمة معارضي نظرية التطور في الفكر الإسلامي المعاصر التي ضمت محمّد فريد وجدي، صاحب موسوعة “دائرة معارف القرن العشرين” وأنور الجندي ومحمّد رضا الأصفهاني صاحب كتاب “نقد فلسفة دارون” وغيرهم، بينما حاول البعض الآخر من المفكرين الإسلاميين التوفيق بين النظرية والتراث الإسلامي، من أمثال عباس محمود العقاد والشيخ أمين الخولي والشيخ حسين الجسر. فمثلاً كان حسين الجسر (1845-1909 م) من أوائل الإسلاميين الذين كتبوا عن نظرية التطور، تحت عنوان “الرسالة الحميدية في حقيقة الديانة الإسلامية وحقية الشريعة المحمدية”. ولكنه لم يقف موقفاً معارضاً منها إذ رأى أن نظرية داروين، في حال أنه تم إثباتها علمياً، لا تتناقض مع الاعتقاد بوجود الله، وأن الإسلام قادر على التوفيق بينه وبين العقلانية والعلوم الطبيعية موضحاً ذلك بأنه يمكن تأويل النص القرآني الخاص بالخلق عندما تثبت صحة نظرية داروين علمياً بما لا يدع مجالاً للشك.

مقالات ذات صلة

        فأي نوع من التأخر أصاب العالم الإسلامي اليوم بحيث أنه لم يعد يحتمل مناقشة نظرية علمية، وبخاصة لأن نظرية التطور الدارونية تشمل أيضاً نظرية الانتخاب الطبيعي وهي نظرية لا يمكن أن يرفضها أحد لديه عقل يفكر، إلا إذا كان جاهلاً بها لأنه لا علاقة لها بنظرية الخلق الدينية. فكل شخص مولود اليوم هو نتاج الانتخاب الطبيعي عندما قرر والده اختيار رفيقة حياته.

        ومن الجدير بالذكر أن شبلي الشميل (1853-1917 م) وهو الطبيب والداروني الذي رأى أن الفلسفة سوف تصبح مبتذلة في المستقبل بعد أن كانت أم العلوم، لأن المستقبل للعلم. وبالرغم من كون الشميل من أوائل الدارونيين الشجعان بعد فرنسيس مرّاش (1836-1873 م) فإنه اضطر إلى التوفيق بين العلم والدين كما في قوله إن “مذهب داروين لا ينقض مذهب المؤمنين”.

        أما عباس محمود العقاد (1889-1964 م) فقد دعا إلى عدم الاستناد إلى القرآن الكريم لإنكار التطور، إذ يقول العقاد في “موسوعة عباس محمود العقاد الإسلامية” إن “الذين أنكروا مذهب التطور يحق لهم أن ينكروه من عند أنفسهم، لأنهم لم يطمئنوا إلى براهينه ودعاواه، ولكنهم لا يجوز لهم أن ينكروه استناداً إلى القرآن الكريم، لأنهم لا يملكون أن يفسروا خلق السلالة الأدمية من الطين على نحو واحد يمنعون ما عداه، وكل ما يجوز لهم أن يوجبوا الإيمان بأن الله تعالى سوى الطين وبث فيه روح الحياة، فصنع منه السلالة التي نشأ منها أدم عليه السلام، فأما أن يحتموا كيفية التسوية، وكيفية النفخ، وكيفية خلق السلالة والزمن الذي خلقت فيه، فهو ادعاء على القرآن، لا يقبل منهم على وجه من وجوه النفي أو الإثبات” (المجلد الرابع/القرآن والإنسان من الموسوعة العقاد الإسلامية).

        وبناءً عليه، فإن إقامة التوفيق بين النظرية والدين ضرورة موضوعية عندما يستلزم الأمر، وهو أمر ممكن، فمثلاً، يمكننا أن نجعل بداية الخلق عند النفخ في السلالات البشرية العليا في المراحل المتأخرة. إن تعليم النظريات العلمية كلها ضرورة ملحة للطلبة كي تنشأ أجيال قادرة على الدفاع عن دينها ومعتقداتها بالعقل والدليل المادي، وقادرة على الحوار مع الرأي الآخر في كافة موضوعات المعرفة، فلا يعقل أن يخرج طلبتنا إلى العالم المتحضر ليدرسوا علوم الطب والأحياء والجيولوجيا والآثار وغيرهما وهم لا يعلمون عن نظرية التطور شيئاً، لأننا بذلك نكون قد أعطينا مثالاً سيئاً لإغلاق باب الحوار ورفض العلم من دون دليل ملموس أو حجة مقنعة، ونكون بذلك قد حرمنا طلبتنا من تعلم النظريات الحديثة التي لم تترك مهنة إلا باتت جزءَاً لا يتجزأ منها.

        فإذا كانت سياسة التعليم القادمة تتجه صوب الانفتاح على “الآخر”، فهل من الحكمة تحديد هوية الآخر الذي ينبغي الانفتاح عليه سلفاً؟ وما معنى تعليم الفلسفة من جديد، فهل يعني هذا تحديد أي فلسفة ينبغي تدريسها وتلك التي ينبغي إهمالها؟ فإذا كانت هذه السياسية انتقائية على هذا النحو فإن المخرجات سوف تكون أيديولوجيا وليست علماً. وهل يتغير عند ذاك أي شيء  في المخرجات التي حصدناها من مناهج التيار السلفي التي سيطرت على مناهج التربية والتعليم منذ خمسينيات القرن الماضي؟

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى