التيه العربي : الخلاص المنشود ولكن من أين ؟؟

التيه العربي : الخلاص المنشود ولكن من أين ؟؟

بقلم : د. لبيب قمحاوي*

يستذكر بعض العرب تيه بني إسرائيل قبل أكثر من ألفي عام متجاهلين التيه العربي المعاصر والتشتت الذي أصاب العرب داخل أوطانهم ومن أوطانهم أيضاً وحَوﱠلـَهم من شعوب كريمة إلى مجموعة من القـَتـْلى أو المشَوَّهين أو المشرﱠدين أو اللاجئين اللذين لا يريدهم أحد . ما الذي جرى لأمة العرب ونـَقـَلَها من حَالٍ إلى حَالْ وجعل منها اضحوكة للغريب وقاطِرَةَ آلامٍ وأحزان للقريب ، وما الذي حـَفـَّزَ عوامل القتل والإجرام في داخلها لتفتك بنفسها وبكل ما يحيط بها وتـُحِيلـَهُ إلى دَمَارٍ وقتلٍ وموت؟

اللب والجوهر هو فلسطين وقضية فلسطين . فالانكسار الفلسطيني والإنهيار العربي أمران متلازمان يرتبط إحداهما بالآخر . صحيح أن بداية الانكسار الفلسطيني العلني جاء من داخل القيادة الفلسطينية ، ولكن ذلك ما كان له أن يتم دون روافع عديدة ، عربية وأجنبية ، جعلت من ذلك الانكسار أمراً ممكناً بل محتوماً ، فلسطينياً ، ومقبولاً ومـُرَحـَّباً به ، عربياً .

مقالات ذات صلة

إن حالة الإنكسار الفلسطيني قد إقـَتـَلـَعَتْ الأحساس بالكرامة والإنتماء العربي من نفوس أجيال عربيةٍ عديدة أُُخْضِعَت لعملية غـَسْل دماغٍ من قـِبـَلْ أنظمتها الحاكمة ومن قـِبـَلْ الإعلام العربي الرسمي وكذلك الغربي والأمريكي بدرجات متفاوتة ولكن بإصرار عجيب ، إستهدف تلك الأجيال ، وأعاد تعريف ثوابتها الوطنية والقومية وحوَّلها من أهداف سامية ماجدة إلى أهداف طائفية ومذهبية وعـِرْقية صغيرة ساهمت في تقزيم الطموحات وقـَطـَّعَتْ أوصال الرباط الحقيقي الذي يجمع الشعوب وإستبدلته بدائرة ضيقة جداً من الولاآت الفرعية التي تفتقر لروابط تجمعها وتبرر وجودها .

الإنكسار الفلسطيني الذي ترافق مع الإنكسار العربي العام هو إنعكاس للترابط العضوي والقومي والأخلاقي والأمني الذي يربط فلسطين بالعروبة والعرب . فكارثة فلسطين ، وهكذا يجب أن تُدعى ، هي القضية التي وَحـَّدَتْ الجماهير العربية وصَقـَلَتْ الأمة العربية وأكدت على وحدة مصيرها وترابط أمنها ، وبأنها قضية عربية عنوانها فلسطيني وليس قضية فلسطينية عنوانها عربي . بعض زعماء العرب ، وهم قلة ، فهموا ذلك وتصرفوا على أساسه وأصبحوا بذلك زعماء لأمتهم وكسبوا عداء الصهيونية وأمريكا والغرب ولعل أهمهم وأكثرهم تأثيراً كان جمال عبد الناصر، والكثير منهم لم يقبلوا بذلك سواء عن فـَهْمٍ أو عدم فهم ولكن النتيجة واحدة ، وأصبحوا بذلك أصدقاء لأمريكا والغرب وحلفاء لهما .

تاريخ العرب الحديث مرتبط بكارثة فلسطين على الرغم من أي شعور أو موقف رافض أو مناهض لتلك الحقيقة . والشعور الجديد العام بالإستخفاف أو الإستهزاء بالقضية الفلسطينية ومحاولات البعض الإساءة للفلسطينيين وإحتقارهم لا يمكن أن يُلغي تلك الحقيقة أو الأثر الصامت أو الصاخب لها على مجرى الأحداث . فما دامت هنالك دولة إسمها إسرائيل على أرض فلسطين تبقى الكارثة الفلسطينية وقضيتها قائمة وآثارها السلبية واقعة على كاهل كافة دول المنطقة وشعوبها حتى لو تـَصَرَّفـَت السلطة الفلسطينية المُعْتـَمَدَة من الإحتلال الإسرائيلي بطريقة إستسلامية كما هو عليه الحـال الآن . فهذا النمط من الإستسلام السلطوي الفلسطيني لا يعني شيئاً إذا كان مَصْدَرَهُ قيادة لا تـُمَثـِّل إرادة شعبها . الإستسلام يصبح أمراً واقعاً إذا إستسلم الشعب ، والشعب الفلسطيني لم يستسلم والإسرائيليون يعلمون هذه الحقيقة تماماً ومن هنا فهم وراء محاولات مستمرة ومستميتة لفرض اليأس الكامل على الشعب الفلسطيني من خلال التوسع في فرض سياسات الإستيطان والتهويد على الأرض العربية الفلسطينية ومطالبتهم الفلسطينيين الاعتراف بيهودية فلسطين وحق اليهود التاريخي فيها .

إن الإفتقار إلى القدرة على تحرير فلسطين أو أجزاء منها يجب أن لا يعني الاستسلام العربي القـَدَري لإسرائيل والقبول بها بل وجعلها دولة حليفة . والفلسطينيون إستنبطوا ردﱠهم الخاص بهم على ذلك الإنكسار العربي من خلال تشبثهم بأرضهم وثقافتهم وتراثهم وأصولهم وإنتماءهم العربي الفلسطيني وإعتبار ذلك المسار إستراتيجية مرحلية للرد على التهالك العربي الرسمي وتفاقم مشاريع تهويد فلسطين دون أن يشكل ذلك بديلاً عن هدف التحرير .

إن إخضاع الفلسطينيين للمِعْوَل العربي قد يكون الأخطر والأكثر إيلاماً من باقي المَعَاوِل سواء الإسرائيلية أو الأمريكية أو الغربية . ومع أن ظلم ذوي القربى أكثر إيلاماًَ إلا أن هذا الظلم ساهم في الوقت نفسه في إضافة مزيد من الصلابة على الإرادة الفلسطينية وإصرارها على الإحتفاظ بالتراث والهوية والأمل في التحرير والبحث عن وسائل لحمايـة هذه الأهـداف إلى أن يرتد العرب إلى رشدهم ويتعافوا من نتائج إنكسارهم الطوعي وفـُرْقـَتهم الإنتحارية واقتتالهم الدامي .

الوضع العربي الحالي ليس محصلة للتدخل الخارجي حصراً ، ولكنه أيضاً وبالأضافة نتيجة حتمية لسياسات أنظمة عربية أبدت إستعداداً متواصلاً وقدرة فائقة على الحفاظ على بقائها وإستمراريتها حتى ولو كان ذلك يعني التحالف مع الشيطان ، والشيطان في هذه الحالة إسرائيلي . وهذا الوضع ، مع مرور السنين ودورة الأجيال ، قد ساهم في خلق طبقات متنفذة من داخل كل نظام ملتزمة بسياساته ، ومسؤولين على استعداد لمعانقة الشيطان من أجل الحفاظ على مكاسبهم . وتم التلاعب بمنظومة القيم السائدة من خلال العبث بمناهج التعليم وإعادة صياغة الثقافة الوطنية بما يتلائم مع أهداف النظام الحاكم في هذه الدولة العربية أو تلك .

إن العمل على تحويل الفلسطيني من شقيق عربي مأساته تصب في صميم الوجدان العربي وأمنه وآماله إلى عنصر مكروه ومن ثم إلى عدو مبغوض يسعى الجميع إلى التخلص من وجوده على أراضيه بغض النظر عن الدور الإيجابي والإستراتيجي الذي لعبه ذلك العنصر ، هذا الأمر يبعث على الشك كونه موقف مصطنع من الأنظمة وليس من الشعوب التي تحكمها تلك الأنظمة وله من الأهداف الشريرة ماهو معلوم وما هو مجهول في الوقت نفسه .

لقد ساهم الإعلام العربي السلبي المُوَجـَّه رسمياً وعلى مدى عقود في لوم الفلسطينيين على المآسي التي أصابت العرب وكأن الفلسطينيين كانوا يملكون من أمرهم شيئاً . وما جرى ويجري الآن من مآس ٍ في العالم العربي لا علاقة للفلسطينيين بها ولا يمكن تحميلهم وزرها ، ولكن يبدوا أن هنالك إصراراً غريباً على الإستمرار في لوم الفلسطينيين وتحميلهم وزر المآسي التي أصابت العالم العربي وكأنهم كانوا أصلاً راغبين في أن يحتل الصهيونيون وطنِهم فلسطين وأن يجعلوا منهم لاجئين في وطنهم وخارجه . الدمار الذي يكتنف العالم العربي الآن هو صناعة عربية في الأساس وآثاره تصيب الفلسطينيين كما تصيب غيرهم ، وقد يعاني الفلسطينيون أكثر من غيرهم كون خياراتهم ، حتى في اللجوء ، تكاد تكون معدومة ، ولا مصلحة لهم في تدمير الأمر الواقع العربي نظراً لانعدام البديل .

لقد آن الأوان لوضع النقاط على الحروف . فالموضوع الذي نحن بصدده أكبر من أي دولة عربية منفرده خصوصاً في آثاره على المستقبل العربي برمته والأمة العربية بمجموعها . فالمحاولات المستميتة لبعض الأنظمة العربية لشيطنة الفلسطينيين كانت تهدف في الواقع إلى خلق المبررات لإعادة صياغة علاقة تلك الأنظمة بإسرائيل وتحويلها من علاقة عدائية مع عدو غاصب يمثل خطراً إستراتيجياً على العرب إلى علاقة ودية مع دولة صديقة ، وفي بعض الأحيان حليفة . وهذا الأمر لم يتم صدفة أو بين ليلة وضحاها ، وإنما جاء نتيجة تراكم سياسات خفية تم استنباطها في ظروف غامضة ومظلمة إرتبط فيها مصير تلك الأنظمة بقدرتها على التحالف مع اسرائيل و استبدال حالة الكره والعداء العربي لها بالكره والعداء للفلسطينيين .

لقد أدى ظهور الإرهاب الديني الدموي مؤخراً إلى خلط الأوراق وقلب المعادلات السائدة عندما تعرضت تلك الأنظمة إلى الضغوط أو الأخطـار الناتجة عن ذلك الإرهـاب . واستعمال مقاومة الإرهاب كعذر لخلق نمط جديد من التحالفات العلنية والخفية شملت إسرائيل قد سَهَّل من مهمة التطبيع العربي مع إسرائيل دون الحاجة إلى الإستمرار في سياسة اضطهاد الفلسطينيين والتمييز ضدهم كوسيلة لخلق الأعذار والأرضية اللازمين لذلك التطبيع . ومع ذلك فإن الإنحراف نحو المذهبية قد خلق أسس جديدة لتصنيف الأعداء الجدد وأصبح عذر التصدي للخطر الأيراني الشيعي مثلاً كافياً بالنسبة لبعض الأنظمة العربية للتحالف مع إسرائيل .

خطر إسرائيل غير محصور بالفلسطينيين . فبعد أن تم إحتلال كامل أراضي فلسطين ، فإن أطماع إسرائيل في دول المنطقة ونواياها العدوانية تجاهها لم تتوقف كما ثبت في لبنان وسوريا والعراق وليبيا ، ناهيك عن الإستمرار في سياساتها العدوانية تجاه دول عربية أخرى بالرغم من معاهدات السلام التي تربطها مع إسرائيل كما تبين الأمر في دور إسرائيل في دعم بناء سد النهضة على مجرى نهر النيل في أثيوبيا مما يشكل خطراً إستراتيجياً على مصر ، وموقف إسرائيل السلبي من قضايا إستراتيجية تهم الأردن مثل المياه والإستيطان .

إن نظرة إسرائيل الإستراتيجية لدول المنطقة قد أثبتت أنها أكثر جدية من نظرة العرب لأنفسهم . ففي حين فقد الكثير من العرب إيمانهم بعروبتهم وبدور مصر وسوريا والعراق في إرساء ركائز تلك العروبة ، فإن إسرائيل ما زالت تؤمن بوجود ذلك الخطر عليها وتعمل جاهدة على تدمير تلك الركائز . فبعد أن تم تدمير العراق عقب العدوان الأمريكي وهَدْم الدولة السورية الذي يتم الأن بتدخل أجنبي وعربي تحت مسميات وأعذار مختلفة، وتحويل لبنان إلى عنوان أجوف لدولة دون أي محتوى حقيقي ، وإلغاء مؤسسات الدولة في ليبيا وتحويلها إلى مساحات قبلية متناحرة تبحث عن هويتها المفقـودة ، تـَبْقـَى مصر الركيزة العربية الأولى والعدو الأهم والأخطر لإسرائيل . ففي الوقت الذي يتنصل فيه كثير من العرب من أهمية دور مصر المستند إلى المقوله التاريخية بأنه “إذا صَلـُحَ حال مصر ، صَلـُحَ حال العرب” ، فإن إسرائيل ما زالت تؤمن بذلك وهذا هو أساس السياسة الإسرائيلية تجاه مصر حتى بعد معاهدة السلام وسيبقى كذلك .

إن الآثار السلبية لسطوة مال النفط العربي على مقدرات المنطقة وتقزيم الكبرياء والشموخ الوطني تحت وطأة الحاجة لاستجداء بعض الدعم المالي من دول النفط قد أضعف من قدرة تلك الدول ذات الحاجة على تبني مواقف ترفض الخضوع والإستسلام لإرادة الآخرين . وهذا الوضع يصب مباشرة في مصلحة إسرائيل التي تسعى دائما للإنقضاض على إرادة الصمود والتصدي العربية وتحويلها إلى واقع مستسلم لإرادة الآخرين . ومـَنْ أقدر على ذلك من مال النفط العربي المُسْتـَعْمَل لتدجين الأرادة العربية عوضاً عن دعمها لتعزيز قدرتها على التصدي لإسرائيل ؟

* مفكر ومحلل سياسي

lkamhawi@cessco.com.jo

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى