الآن أحتاجك يا والدي / منصور ضيف الله

الآن أحتاجك يا والدي …
“ليس الأمر هكذا”، قالها والدي في مجالسه . انفضت المجالس وتبعثرت ، مات والدي ، وكبر الصبي … خان نفسه أو خانته الأيام ، لا فرق . لم أكن أعي معنى جملته . بصراحة كنت أجدها جافة ، تحوطها اللامبالاة ، وبلا معنى . وكنت أذوب حيرة تلامس حد الخجل إذ أسمعها مدوية في حضرة صمت يخترم المجلس . اعتاد أن يقولها ثم يطلق العنان لناظريه في الأفق المفتوح ، يغيب بعيدا ، يسرح فيما لا نرى ، حينها كنت أخاف منه … والدي يغرق في عالم آخر ، أمواج متتالية من ماض بعيد ، تجاريب عبرت سنوات عمره وتركته كورقة خريف صفراء تتجاذبها أرواح ندية حلت من فيافي مجهولة بعيدة .

“ليس الامر هكذا”، لازمته في أواخر أيامه ، عند نشرة الأخبار ، عند تحاججنا على زيادة المصروف المدرسي ، عند بكاء الوالدة احتجاجا على ظلم أو قهر .وعند لجاج الناس في حق ضائع او مراد مطلوب .

مات والدي …. نهض من فراشه ، وامتدت كفه إلى قدح ماء ، اجترعه مرة واحدة ، تحمد وشكر ، وبعد لحظات زفر أنفاسه الاخيرة . كنت بعيدا عنه ، محتلا من آخرين ، بلا عنوان حقيقي .

دخلت مضافته ، كانت دقات الساعة تلهث نحو يوم جديد … معتمة وخالية وحزينة . لم يكن صدر المجلس عامرا . الفارس غاب ، رحل الصوت ، انفض الجمع ، والدلال انكفأت بلا هيل ، بلا رائحة . والعباءة تندب حزنها الخاص ، بصمت تبكي ، وتنثر دمعها على ما تبقى من تاريخ . شيء واحد ظل بعدك ، يخيفني وينقلني الى عوالم بعيدة غامضة : ليس الأمر هكذا .
الآن أحتاجك يا والدي ، أن أغرق بحضنك ، أن أفنى فيك ، وأصرخ : “ليس الأمر هكذا” .

مقالات ذات صلة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى