ارتقاء التفاهة ! / اسماعيل أبو البندورة

ارتقاء التفاهة !

تكاد مقولة المفكر الماركسي ” كاستورياديس ” عن عصر أرتقاء التفاهة في زمن أوروبي ما أن تكون مطابقة ومعبرة بالتمام والكمال عن عصر عربي نحياه على الأقل منذ أربعة عقود ، فالأزمات والإشكاليات والتناقضات التي عانى منها العصر الذي شهده وعاينه “كاستورياديس” ووصمه بهذا المعنى وهذه السمات هو على نحو ما مثلما هي سمات التفكك والتأزم في عصرنا العربي الحالي وتجلياته الشاخصة من اختلاط وتهافت وضحالة ونذر انحلال واضمحلال .
وتتأكد دلالة ارتقاء التفاهة بالمعنى الذي طرحه “كاستورياديس” بصعود اللامعنى وزوال الحدود بين المفاهيم والقيم والمعاني ، وتفكيك وتحطيم المرجعيات ، وتعاظم التهافت والابتذال ، وانعدام مساحات العقلانية والحوار والابتكار واعتلاء منصات الحوار والثقافة والسياسة نخب طارئة من أشباه وأنصاف المثقفين لتضحي لدينا حالة طامّة من التكلس والعماء والنكوص وكل انواع البلاء المخبأة في ثنايا هذا الواقع المتشقق السائر نحو ظلامية وانغلاقية محققة .
وإذا أردنا الاستدلال على فشو وشيوع هذه الحالة – الظاهرة ( ارتقاء التفاهة ) في حياتنا العربية ، فإننا سنجد مساحات واسعة من البراهين والنماذج والممارسات التي تدلل بشكل فاضح وفاقع عنها في جميع الحقول والمجالات ، كما يمكن لكل عربي عاقل متألم مما يجري في معظم أصقاع وطننا العربي أن يشير إلى مواطن وأشكال مختلفة من تجليات الظاهرة وتفاقمها واستمراءها والتواطؤ مع صنّاعها وسادتها .
ترتقي التفاهة بإفقار المجتمعات وتفريغها من ثقافاتها ووعيها الايجابي اليقظ ، وتحويلها إلى مجتمعات رملية متباعدة وشراذم شاردة وجعلها كالعهن المنفوش أو كالعصف المأكول حيث يكون الناس فيها سكارى وما هم بسكارى ، وحيارى في كل واد يهيمون ، وتتقدم في الأثناء ثقافة الفهلوة والشطارة والضحالة الثقافية ويرتد الناس الى عصبياتهم الأدنى بعد أن تحطم كل ما هو أعلى في سلم القيم والتقاليد الكبرى وكل العناصرالمؤسسة والجامعة والجاذبة المكونة للمجتمعات السليمة ، وتغيب القيم النبيلة وكل ما ينهض بالمجتمعات من إرادة ومشاركة ومروءة ورغبة في التغيير ولا يبقى في المجال إلا الفراغ والزبد الذي يذهب جفاءً والتجاذبات الانحطاطية التي لا تغني ولا تسمن من جوع ، وتلك من الدورات الخطرة في النكوص إلى الوراء أو هي المقدمات والطريق المباشر الى الانقراض .. نعم الانقراض بالمعنى الحضاري والتاريخي وتحول الأفراد إلى مستحاثات وأجساد تدب في الأرض بلا عقل .
إن كل ما يدور الآن في المجتمعات العربية يؤكد الظاهرة الموجعة وتجلياتها المختلفة التي أصبحت تتبدى بأشكال وأساليب ضاغطة وقاهرة ، وتكاد تختفي ثقافة النهوض والتغيير إلا لدى من رحم ربي من تلك القلة المثابرة التي لا تزال واقفة أمام قولة : أحد .. أحد بطريقة تراجيدية حيث القلة تواجه الكثرة ويصبح صوتها بأعراف الانحطاط وعلى أرض الواقع صراخاً في البرية .
إنه مظهر عودة المجتمعات القهقرى بتحويلها الشعوذة السياسية والخزعبلات والفساد والإعلام المدنس إلى حالة ارتقاء وتحديث غرائبي ، وترويجها كاطروحات وموضوعات ومنابر عصرية وفضائيات مفتوحة للحوار الهابط بالتي هي أسوأ وبالقناوي أحياناً ، والمجادلات الزائفة المبتذلة ومحاولة الإقناع بالتعمية والصراخ والصوت العالي المستأسد والمروّج للانحطاط بكل أشكاله ، وهو زمن التحول إلى الموبايل والفكر اليومي والبرقي والمسجات الباهتة وووهم المجتمع الافتراضي بديلاً عن الواقعي ، والدردشة الفارغة بدل الفكر والكتاب وثقافة النهضة ، كما أنه زمن الانسحاق والخنوع واستجلاب ثقافته والترويج لهذه الثقافة النكوصية وجعلها موقفاً جماهيرياً شعبوياً ورؤية جديدة لمعطيات الانسحاق السائد ووجهة نظر مشروعة وممكنة على جدول الأعمال الانحطاطي والدعوة الى الإذعان والقبول بما هو كائن ومدلهم وغير ذلك كثير.
ولنا بالطبع أحاديث أخرى حول ثقافة الارتقاء في مواجهة ارتقاء التفاهة ذلك أن للمجتمعات فضاءات أخرى لا بد من إبانتها لتوسيع فسحة الأمل والتفاؤل .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى