ابن بيرو / يوسف غيشان

ابن بيرو
مطالبنا الصغيرة كانت تقابلها الأم باستنكار شديد اللهجة ، وأحيانا بالنقد اليدوي ، حينما كنا نحاول الاحتجاج على ازدراد المجدرة بشكل متكرر لأسبوع كامل ( لمن لا يعرف المجدرة ، الله لا يورّيكو إياها ) ونطالب – مثلاً – بطبخة كوسا وبندورة أو بندورة وكوسا ( بدون لحمة طبعاً ). كانت الأم ترفع شناكل حواجبها وتنظر إلينا نظرة يرتجف لها قلب الشجاع فينا، وتقول باستهزاء :
– ابن بيرو !!
وكنا نفهم حسب الكلمة ان بيرو وهذا شخص غني جدا، ويستطيع ان يأكل المجدرة مرة واحدة في الأسبوع ويوزع الطبخات المتنوعة على بقية الأيام ، ربما يصل فيه الثراء إلى درجة الاستغناء عن المجدرة بأنواعها ( مجدرة رز / مجدرة برغل / مجدرة صرامي ) . طبعاً ندرك أنه لا يحق لنا انت نتذمر ونتدلل لأننا لسنا أولاد المدعو ( بيرو) .
و( بيرو) تلفظ بالياء المخففة ( حسب قول أساطين النحو ) وهي لا تشبه لفظ ( بيرو) الدولة ، ولا ما يسمى بالبيرو في غرفة النوم في غرفة النوم ( جرار خشب لحفظ الكلاسين كما أظن ) .
( بيرو) هذا كان ضابط الاقتصاد المنزلي في بيتنا ، فما أن نسمع باسمه حتى نبدأ بجرش المجدرة بأسناننا المصابة بالجدري رغماً عن أمعائنا الزاخرة بالفاقة . فما أن تهدأ حالنا ، وتستقر بطوننا ، حتى ينتعنا الوالد درساً في القناعة إذ كان يقول لنا أن ( منغو) وهو ، أغنى رجل في عمان آنذاك ، لما مات طلب أن تخرج يداه من التابوت حتى يرى الناس أنه لم يأخذ معه من أمواله شيئا .
درس الوالد لم يكن مقنعاً ومفيداً ، لأننا ما كنا نريد أن نأخذ شيئاً معنا ، نريد أن نأكل ونلعب . ونشتري بـ( تعريفة ) كل يوم أحد بعد تناول طبخة المعكرونة مع علبة لحمة ( لانشون ) بعشرة قروش كانت الأم تقسمها إلى ست قطع حسب عدد أفراد العائلة .
الآن لو قلت لبناتي ( لا أنجب إلا بنات ) بنات بيرو ( !!؟ لضحكن علي ، إذ لم يعد هذا الجبل يفهم هذه الحكم والأقوال ‎، فقد تسمم مثلما تسممنا نحن بأنماط الاستهلاك الجديدة ، وثقافة البترودولار ، إذ ماذا يعني ( بيرو) …. قم واستدن حتى آخر الشهر بلا فلسفة .!!.
الله يرحمك يا بيرو ، لم تعد تشكل بعبعاً لجيل الاستهلاك بعد أن تحول الشعب إلى أداة مضغ بدون إنتاج . مقابل ذلك لم ندفع شيئاً سوى كرامتنا واستقلالنا الوطني !!.
يحيى الذكاء
من كتابي(برج التيس)الصادر عام1999

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى