إﻻ تنصروه فقد نصره الله … / عبد اللطيف مهيوب العسلي

إﻻ تنصروه فقد نصره الله …

وﻷنها رحلة غيرت مجرى التاريخ وﻷنها فريدة من نوعها …أكد الله ذلك في الذكر الحكيم .((. إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) )) التوبة .الهجرة الي المدينة تعني الكثير في التاريخ الانساني وبخاصة نحن العرب والمسلمين ,فهي اضافة جديدة للحياة الانسانية ومكسب حضاري ينبغي ان نفخر به وان نحرص على الاستفادة منه , ولسوء الحظ اننا لم نستفد الاستفادة المثلى من هذه الهجرة , ومع ان الاسلام قد انتشر بسبب الهجرات التي حصلت بعد العهد النبوي الا ان البعض يشكك في الهجرات التي اطلق عليها الفتوحات الاسلامية ما ترك تصورا خاطئا عن الدين الاسلامي لدى البعض تلحق به تهمة مفادها ” ان الاسلام قام بالسيف والاكراه ” وهذه التهمة الاسلام براء منها بل تتعارض مع مبدأ الاختيار الحر الذي نادى به الدين الاسلامي بنصوص واضحة لا تقبل اللبس ولا تحتمل التأويل
وﻻ يوجد دليل واضح على هذه التهمة بل على العكس بدليل أن من دخلوا في الإسلام لم يغادروه بعد خروج الفاتحين من بلدانهم.

قد كان للعرب والمسلمين فرصة أفضل من غيرهم في احداث هجرات مشابهة بدلا وان يطوروا من الفتوحات الإسلامية ويصححوا أي اختلالات قد تصاحبها،
بل ربما كانت فرصتهم لاكتشاف قارات جديدة وعوالم من شعوب مختلفة أفضل من الأوربيين الذين ساعدهم الحظ لاكتشاف القارات الامريكية وقارات استراليا ,

ومن يمعن النظر بالهجرة والوثيقة الدستورية التي تم التوافق على بنودها من جميع مكونات مجتمع المدينة بمختلف قبائلهم ودياناتهم . سيجد ان هذا المكون الجديد مجتمع مدني بكل ما تعنيه الكلمة .

مقالات ذات صلة

فلم تكن المدينة قطرا أو إقليميا مقابل أخر, ولا جهة مقابل جهة أخرى, أو تجمع مقابل تجمع , المدينة المنورة يدلك اسمها في زمن لم تعرف فيه العرب المدنية ولا العمران نبل المقصد وسمو الغاية أرادها مؤسسها عاصمة العواصم ، وأم المدائن وحاضنة الإنسانية جمعا , انشئت على قواعد العدل لكل من يقيم فيها ودون تميز لفئة دون اخرى, او لجماعة دون جماعة , قامت من اجل الحرية والعدل للإنسان وصارت حاضنة للإنسان, شرط قبوله بالمباديء التي توافق المدنيون عليها فلا يمارس فيها ظلما أو طغيان ,تنبؤك بنود هذه الوثيقة الدستورية او ما تسمى بوثيقة المدينة ان هذا المكون الجديد مجتمع الذي اصبح بعد الهجرة مجتمع المدينة مجتمع مدني يلتزم بعقد اجتماعي .لم يعهده العرب من قبل ,وهذا ان دل فإنما يدل على ان هذا المجتمع قد اسس على مبدا العدل والقيم الانسانية النبيلة .

**** اسباب ودوافع الهجرة:

**إن الهجرة النبوية كانت نقطة مهمة في التاريخ الإنساني غيرت مجرى التاريخ ,وان رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث في مكة المكرمة يدعو قومه إلى الله على بصيرة ويهدي الناس إلى الحق في تؤدة وتريث ,وبالأساليب التربوية النبوية يمحو آثار الجاهلية وما خلفته في العقول من خرافة ووثنية وما تركته في النفوس من زيف وفساد , ومن غواية وهوى .
******
وكانت ـ يا سادة ـ محن شداد , وكانت أهوال ,ولكن محمد صلى الله عليه وسلم تحمل ما لا تحتمله الجبال , إن الواحد منا يخشى إن قال كلمة حق أو دعاء إلى خير أن يناله إعراض من أمير أو حاكم ,أو يسمع كلمة سوء من الناس , أو يُشتم أو يُضرب , سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم شتمه قومه وآذوه وسخروا منه , وقالوا عنه مجنون ,وقالوا ساحر ,وقالوا كذاب ,وكانت أم جميل بنت حرب بن أمية تحمل الشوك فتلقيه في طريقه حتى إذا خرج تعثر به ,وهي ” حملة الحطب ” وكان أمية بن خلف يهمزه ويلمزه وهو الهمازة اللمزة .
وسخروا منه ـ سخر الله منهم ـ فقالوا له سل ربك ان ينزل عليك ملكا يدافع عنك فانك تقوم في الأسواق مثلنا وتلتمس المعاش .
وقال أخر اسقط علينا السماء كِسَفاً كما زعمت ..
وقال ثالث : أنا اعرف من أين تأتي بهذا يعلمك إياه رجلٌ في اليمامة يُقال له الرحمن , وهم بذلك يضحكون وبقهقهون وكلما فتح فمه ليتكلم لقوه بمثل هذه الأقوال .
وقال أخر : يا محمد لن نؤمن لك حتى تصعُد إلى السماء فتأتي بالله والملائكة معك لينصروك علينا …
فانزل الله عز وجل حكاية لأقوالهم هذه (( وقالوا لن نؤمن لك حتى تَفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كِسَفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرفٍ أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرأه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ))
وقالوا له لماذا لا ينزل ربك علينا ملكا ؟
فرد الله عليهم أن لو كان سكان الأرض ملائكة لأنزل الله عليهم ملكا رسولا
ولكن في الأرض بشرا فكان رسولهم بشرا مثلهم .
وكان النضر ابن الحارث كلما قام الرسول من محله قعد مكانه وقال أنا أحدثكم أحسن من حديث محمد ,وكانوا كلما جاءوا
يتل عليهم القران شغبوا عليه وصاحوا وقالوا ((لا تسمعوا لهذا القرآن وألغوا فيه لعلكم تغلبون ولما نزلت عليه أية ((عليها تسعة عشر ))قال أبو جهل ضاحكا ساخرا :يا معشر قريش زبانية جهنم الذي يخوفكم بها محمد عليها تسعة عشر فهل يعجز كل مائة منكم عن رجل منهم ؟!
فنزل قوله تعالى ((وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا)) ولم يكفهم ذلك كله حتى قاطعوا محمد وأصحابه وحبسوه في الشعب أمداً طويلا لا يبيعونهم ولا يكلمونهم .
فهل ترونها أثرت هذه الأهوال كلها في عزيمة محمد ؟
أو أنقصت من إيمانه بدعوته وحماسته لها ؟
*******
لقد عرضوا عليه معها أقوى المغريات أن يملكوه عليهم وأن يعطوه الأموال وأن يقدموا إليه أجمل النساء ليتزوج منهن بمن شاء فكان موقفه بعد هذه المغريات كلها وهذه المصائب كلها أن قال لعمه أبي طالب :والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري لأترك هذا الأمر ما تركته .
فهل تعرفون في تاريخ الجنس البشري موقفا آخر كهذا الموقف ؟
*******
واستمر هذا كله وامتد لا يوما ولا يومين ولا أسبوعا ولا شهرا ,بل امتد سنوات طوالا ولو أن رجلا غير محمد لقال :حسبي لقد عملت ما علي وبذلت الجهد فإذا النجاح مستحيل وقد آن لي أن أنسحب وأقعد في بيتي ولكن الانسحاب لا مكان له في منهج محمد ,وكلمة المستحيل لا وجود لها في معجمه , وإذا لم ينجح في مكة فلينتقل إلى غيرها فإن الدعوة للدنيا كلها وللعصور كلها وانتقل إلى الطائف والنقلة إلى الطائف عسرة والطريق إليها طويل ولكن محمد
صلى الله عليه وسلم لا يصرفه عن الغاية عسر المسلك, ولا طول الطريق وبلغ الطائف وقصد سادة ثقيف الثلاثة لعله يلقى عندهم ,ما لم يلق عند زعماء مكة وبدأ يعرض عليهم دعوته فإذا أولهم يقول له : أنا أمرط ثياب الكعبة ” أي أمزق ثياب الكعبة ” إن كان الله أرسلك …وقال الثاني أما وجد الله أحدا يرسله غيرك ….وقال الثالث : أنا لا أكلمك أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم من أن أرد عليك الكلام ولئن كنت تكذب على الله فما ينبغي لي أن أكلمك !
قال :أما إن رفضتم ما جئت به فاكتموه عني لجأ إلى نبلهم بعد أن يئس من عقلهم فما كانوا
نبلاء وأغروا به السفهاء والعبيد يلحقونه ويدفعونه ويسبونه ويصيحون به حتى أخرجوه إلى طرف البلدة.
وهنا وقد بلغ الهول هذا المبلغ دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء ما أظن أحدا أن يسمعه ويفهمه يملك قلبه أن يسيل من الرقة دمعا من عينيه .
قال : ((اللهم إني أشكوا إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين ,وأنت ربي إلى من تكلني ؟إلى بعيد يتجهمني , أم إلى عدوٍ ملكته أمري ! إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي ,أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك ,أو يحل علي سخطك لك العتبى حتى
ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك ))
وهنا موقف عجب من العجب الرسول في هذه الحال من الشدة وفي هذا الموقف الذي يقنط أجلد الأبطال رأى بادرة قبول للدعوة عند عبد ضعيف يقال له “عدًاس” ,فلم يمنعه كل ما لقي من أن يبلغه دعوة الله وينصرف إليه وينسى ألمه وتعبه حتى أسلم .
******
ها هو ذا قد جرب الدعوة في مكة وفي الطائف فلم ينجح وصبر ثلاث عشرة سنة ,أربعة ألاف وستمائة واربعة وخمسين يوما ,كل يوم من طوله وشدته سنة فهل بعد هذا مجال للصبر ؟ألا يعذر لو ألقى السلاح ,بعد هذا كله وانسحب ولكن كلا !
ا ن قريشا بجهلها وحماقتها تريد ان تمنع الخير عن العصور القادمة تريد ان تصد النور عن الأرض كلها ,وتريد ان تمنع قيام بغداد الرشيد والقاهرة ,وصنعاء ,وشرق آسياء ,والأندلس ,وجامع قرطبة ,والمدرسة النظامية ,والأزهر الشريف ,وتريد ان تطمس الحضارة التي جاء يقيمها محمد صلى الله عليه وسلم فتمتد من أقصى الغرب إلى أخر جاوه فماذا يصنع محمد صلى الله عليه وسلم ؟
يهاجر ليفتح للدعوة بابا جديدا تطل منه على الدنيا وكان هذا هو يثرب التي صارت به ” المدينة المنورة”
,وسير أصحابه إليها وتأخر هو لم يترك مكة دار الفزع إلى يثرب دارا لأمان حتى لم يبق فيها احد من المسلمين , لم يترك الا عليا وهو منه ,وهو كولده نام على فراشه ليؤدي الودائع التي كانت عنده لقريش ,وكيف تودع قريش أموالها وذخائرها عند عدوها ,رغم ما كان بينه وبينها؟,
وهل يودع حزب أوراقه ووثائقه عند فرد من حزب أخر معاد له ؟
لولا أن محمدا كان في أمانته وفي قوة خلقه أمة واحدة ,وانه كان طراز ليس له في البشر مثيل .
وهاجر مختفيا مع خليله وصديقه أبي بكر ,ولم يختفي من ضعف ولا جبن ولكنه كان كالقائد المسافر ليدير المعركة الكبرى , فهل يظهر نفسه ويقف على الطريق ليحارب فصيلة لحقت به فيظفر عليها ويعطل المعركة الكبرى التي تنتظره بدر ,واليرموك ,وجبل طارق ومعارك الفتح الإسلامي التي امتدت من بعد سلسلة مظفرة خيرة نثرت شهداء الحق في كل ارض ونصبت راية العدل في كل مكان .
وتنتظره المعركة الكبرى مع الجهل والفقر والظلم والفسق وسائر الأضرار الخلقية التي جاء ليطهر المجتمع البشري من آثارها .
******
ودخل المدينة لا يرفرف على رأسه علم ,ولا يمشي وراءه موكب ولا يقرع له طبل ولكن ترفرف على رأسه راية القرآن ,وتمشي وراءه العصور القوادم ,ويخفق له قلب التاريخ ما بقي في الدنيا تاريخ ,وخُتمت في تاريخ الدعوة صفحة وفتحت صفحة أخرى ومضى عهد الضعف والأذى وبدأ عهد القوة والظفر وكانت الهجرة هي الحد الفاصل بين العهدين .
******
ـ فيا أيها المسلمون ـ اذكروا كلما احتفلتم بالهجرة أنها كانت الحد الفاصل بين الذلة والعز ة والخيبة والنجاح ,وأنها كانت الفصل الأول في كتاب المكارم ,والمفاخر والأمجاد ,وان على المسلم كلما ضاقت به سبل الحياة وسدت عليه طرق النجاح في حي أو بلد أو قطر,
أن يهاجر الى حيث الظفر والعزة والحرية ,وحيث يكون ذلك كله وحيث تسود العدالة ويعم النور ,
وحيث ينادي المنادي : لا إله إلا الله محمد رسول الله ـ فذلك وطن المسلم .
(( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى كلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم ))
فلقد كنت الهجرة نصرا ضد الظلم والطغيان وان على كل مؤمن ان ينتصر لهذه القيم النبيله وان يهجر الفحشاء والمنكر . فذلك نصر الله فنصر الله يعني تقواه الذي به يهجر كل ما لا ير ضاه الله , لا ما يدعيه البعض من إراقة الدماء والفساد في الارض ثم يزعم ان ذلك نصرا لله فنصر الله التقوى التي تحمل الانسان التزام العدل والحق والاحسان كما قال تعالى :
“, لن ينال اللهَ لحومُها ولا دمائها ولكن يناله التقوى منكم ” .
*****
ومع ذكرى الهجرة النبوية المطهرة نودع عام ونستقبل عاما جديدا سائلين المولى جلى وعلى :اللهم بارك لنا من استقبال عامنا هذا وادخله علينا في عافية عظيمة في ديننا ودنيانا وأهلنا واو لادنا ومن يلنا من صغير او كبير , وعلى جميع المسلمين ووفقنا به على طاعتك وحسن عبادتك وأجرنا به من معصيتك من شر أنفسنا وشر الناس أجمعين واجعل لنا مسخرا من عقولنا ومهيمنا من أنفسنا ,واجعل حظنا فيه من لطائفك جما غفيرا كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرانك كنت بنا بصيرا, اللهم وتقبل منا ما مضى من صالح أعمالنا وما علمت انه لا يصلح لتقبله من قول او فعل, أو عمل فافتح لتقبله بابا من أبواب رحمتك وجودك اللهم وافتح لنا عامنا الجديد برحمتك وامتنانك واختم لنا عامنا الماضي بعفوك وغفرانك .
وافتح لنا فتحا مبينا وانصرنا نصرا عزيزا ، ونجنا واهل اليمن والمسلمين بغي الباغين وظلم المعتدين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى