أُحبُّ بلادي .. وهذا كلُّ ما في الأمر ! / أحمد هاني النجار

أُحبُّ بلادي .. وهذا كلُّ ما في الأمر !
أنا رجلٌ في الثامنة والأربعين من العمر الفارغ , أمتهن الحنين إلى الوطن , وأعملُ كرسّامٍ “كريكاتيريٍّ” لأقلّص المسافة بيني وبين أرضٍ لم تنفك عن كونها ثكلى ولم تزل تقاوم وحدها خياناتِ الورى وبندقيةُ الغاشمين .
لقد كنتُ في العاشرة من عمري عندما هجّرتُ مع عائلتي وأصبحت لاجئاً بالقوة وبالإصطلاح !
طُردنا من الأرض التي لم نتعلّم سوى عشقها ولم نعشق سواها , وما زلت إلى الآن وبعد ثمانٍ وأربعين عاماً ما زلت أُحصي الساعات التي فيها ملاذ الحلم كي أرى وطني وأبتسم !
لقد كان أبي فلاحاً يربّت على ظهر أرضه كي ينبُتَ الرزق , وبينما كان المحتلُّ يهدم منزله كانت الأرض تناجيه كي يعود ! , لقد كنتُ في حينها مُحبّاً و خائفاً كما الأرض , وغاضباً ليس بيده حيلة كأبي , وكأبي لم أنل حصّةً من الدنيا .. ولكنني ما زلت حياً !
أتذكّر ملامح وجهه ونحن نسير في ليل الطريق وبين صراخ الثكالى والأطفال ورعشةِ العشب , وما زلتُ أسمعه يقول لي : “لا تحزن يا ولدي , سنعود حتماً .. ولا تخف على أرضنا فالأرض لا ترزقُ إلا أصحابها والأرض لا تموت” !
وبعد مرور أعوامٍ لم أُحصها رأيت أبي على فراش الموت يبكي على أرضه ! , ويقول لي بأنه لم ينل حصّةً من إسمه ويأمل لي أن أنال أنا ذلك !
كان إسم أبي “سليم” ولكنه لم يسلَم قط !
وأما أنا فما زلتُ أبحث عن حصّتي من هذا العالم , حصّة أرضنا التي يلهوا عليها أعداؤنا إلى الآن , وحصّتي من إسمي ! .
بدأت الرسم صغيراً في عمرٍ لم أُحصه !
لقد كنت أرسم على الخيام وعلى صفائح الحديد وعلى جدران المخيّم , وإنتقلت بموهبتي وبدأت الرسم على جدار زنزانةٍ شاطرتني الحزن وعلّمتني الحياة , علّمتني كيف يكون شعورُ من فارق أرضه و وطنه و من مات والده حسرةً ومن عاش حسرةً ومن فارق عائلته و أُلقيَ في السجن وحيداً منفيّاً عن كل مسعاه وأحلامه !
لقد إعتقلني أعدائي بسبب نشاطي الفنيِّ والسياسيّ المعادي لهم ! , وإعتقلني إخوتي لنفس التهمة أيضاً ! .. وهنا تكمن المهزلة وتتجسّد على شكلِ أشخاصٍ كان وما زال القرار برمّته لهم وبيدهم فقط !
وما إن أخرج من سجنٍ حتى يعيدوني إلى آخرٍ لنفس التهمة .. لقد كانت تهمتي أعمق من أن تكون تطاولاً على أصحاب القرار والمشيئة الدنيوية , لقد كانت تهمتي تتلخّص في أنني قلت “لا” في وجه من قالوا “نعم” !
من كان يقول “لا” ويكتب عن أرضنا وحقنا أو يرسم مآساته يموت , إما يموت قهراً أو بالرصاص , ولا فرق بينهما سوى أن الرصاص مشرّفٌ أكثر .
ولم أنفك عن الرسم ولا عن الكتابة حتى هذا الوقت , لقد تلقيت العديد من التهديدات الصريحة التي تتلخّص في قتلي و حرقي ما لم أكفَّ عن التطاول على الرموز والسادة ! , وكان سبب هذه التهديدات في نظري ليس سوى أنهم لا يعرفون ما أرنو إليه ألا وهو الموت بشرفٍ على حقٍّ تنازلوا عنه أو لم يدركوه ..
لقد تزوّجت رغم هذا الكم من العدميّات , وسافرتُ إلى مكانٍ أستطيع أن أفرّغ ما لدي من الوقائع التي تهزأ بنا يوماً بعد يوم , دون أن أُنفى بعيداً عن عائلتي وأطفالي , وما زلتُ على إستعدادٍ تامٍ بأن ألقى حتفي يوماً ما على يد أعدائي من أبناء لغتي وصبغتي أو من مَن إحتلوا أرضَ أجدادي وأبي , ولا فرق بينهما سوى لغةِ الحوار فهذا ينهق وذاك يعوي !
لقد كان بودّي أن أقول لأطفالي أنني كأبي , وأنني لم أنَل حصّة من إسمي أيضاً , ولكن لا بأس .. لا بأس .
إنني وبعد هذا كلِّ هذا العمر البطيء لم أجد شيئاً أتمسّك به سوى حقّنا الضائع وقلمٌ و ريشة رسمٍ كسجيّةٍ ما زالت تقرّبني من المنيّة !
أنا إسمي “ناجي” ولكني لم أنجُ قط , لم أنجُ من حبِّ أرضي رغم كل ما أفعله لها وما أريد فعله !
وما أريده الآن هو أن يعلم كلُّ من تعرّفَ على جثتي بأنني (لستُ مهرجاً .. ولستُ شاعرَ قبيلة. إنني أطرُد عن قلبي مهمةً لا تلبث أن تعود ، ولكنها تكفي لتمنحني مبرراً لأن أحيا .. أنا متّهم بالانحياز ، وهي تهمة لا أنفيها . أنا لست محايداً ، أنا منحاز لمن هم “تحت” الذين يرزحون تحت نير الأكاذيب ، وأطنان التضليلات .. وصخورِ القهر والنهبِ وأحجارِ السجون والمعتقلات . أنا منحازٌ لمن ينامونَ بين قبورِ الموتى ، ولمن يقضونَ لياليهم يشحذون السلاح الذي سيستخرجونَ به شمسَ الصباح ، ولمن يقرؤون كتابَ الوطن في المخيمات !)
“منحازٌ لكم ولنفسي , و أحبُّ بلادي .. وهذا كلُّ ما في الأمر !”

– ناجي العلي .. لم ينجُ لأنه عليّ .

“ناجي سليم حسين العلي ولد في سنة 1937 , رسام كاريكاتير تميّز بالنقد اللاذع والصريح والغير منحاز وكانت لوحاته تعبّر عن الوعي السياسي الثوري ، ويعتبر من أهم الفنانين الذين عملوا على ريادة الوضع السياسي باستخدام الفن كأحد أساليب التكثيف . له أربعون ألف رسم كاريكاتوري، وثلاث مؤلفات . تم إغتاله على يد شخصٍ ‘مجهول’ في لندن عام 1987م.”

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى