أنت مع الله !! / خالد عمر المومني

أنت مع الله !!


فتحت ستائر الشباك في صباحٍ بارد غَلب عليه الظلام .. قررت ألا أذهب الى عملي او القيام بأي واجباتي اليومية .. قررت بأن يكون هذا يومي المنتظر ..
بعد دراسة عميقة و قراءة الكثير من الكتب و المراجع لسنين طويلة و أيام التوتر و القلق و الإنعزال و التفكير .. اليوم هو اليوم الذي أختار فيه طريقي بين الإلحاد و الإيمان .. بين العصمة و المتعة .. بين يدي الله و عدمه ..
إنطلقت إلى الشارع و أخذت وعداً على نفسي ألا أرجع للبيت إلا و قد حسمت قراري ..
قادتني أقدامي نحو المتنزه الصغير بجانب بيتي الذي يقع على بحيرة الخطيئة التي أحبها ..
كان المتنزه فارغاً من البشر ليس فيه سوى نفسي و أفكاري و قضية حياتي ..
وقفت في منتصف الطريق .. هذه اللحظة المناسبة .. نظرت لأقدامي و دعوت .. دعوت للذي يسمع أياً كان أن يرشدني .. أغمضت عيني .. عزمت أن أفتحها على قراري المصيري .. فتحتها .. أنا ….
رأيت رجلاً كبير السن يجلس بجانب البحيرة على الكرسي بيده كتاب كبير و قلم .. ينظر إلي نظرة حادة .. كادت أقدامي أن تسقط من شدتها ..
بلعت ريقي و ذهبت إليه .. لا أعرف لماذا .. لكني ذهبت إليه ببساطة ..
قلت له أتسمح لي بالجلوس ؟ .. لم يرد بأي شيء و ظل محدقاً بالبحيرة ..
جلست .. عم الصمت لدقيقة ..
فقلت له بتلبك شديد: أعرف أن سؤالي غريب جداً من رجل قابلته للتو و في هذا المكان .. و أنا لا أعرف لماذا أسألك بالأساس .. لكن .. هل تؤمن بالله ؟ ..
نظر إلي العجوز و إبتسم إبتسامة صغيرة و وضع الكتاب جانبه .. و طق بإصبعه عليه مرتين ..
ثم أشاح بوجهه عني و تابع تحديقه بالبحيرة ..
نظرت الى كتاب العجوز و إليه بإستغراب شديد و ذهولٍ عظيم ..
أمسكت الكتاب و بدأت القراءة من أول صفحة ..
…..
العنوان:
مذكرات و قصة هزيم
..
أكتب لكم قصتي من هنا .. لأني لا أظن بأن ما قبلها يستحق الذِكر ..
أحببت سلمى حباً عظيماً .. بالحقيقة أحببتها منذ أعطتني السوس في الصف الثاني .. دارت بيننا العديد من الحوارات بحكم علاقة عائلتي بعائلتها و هي تعتبرني صديقاً مقرباً .. بكل حديثٍ دار بينا خُيل لي بأني أتحدث للجنة .. و إن أصبحت سلمى لي فلا حاجة لي بالجنة بعد ذلك .. و ها أنا بسنتي الجامعية الأولى .. أريد أن أعترف لها بحبي .. و قد كتبت لها قصيدة حبٍ دلني عليها دكتور العربي .. و ذاهب في طريقي لبيتها .. أحمل بيدي ورقة و بجيبي وردة حمراء و بقلبي أحلام سنين و روحي تشتعل شوقاً .. حسناً ..
سار كل شيء على ما يرام .. قبلت مني الوردة و الورقة و إعترفت بحبها لي أيضاً .. و هل لعاشق أفضل من هذا اليوم ؟ ..
عدتُ لبيتي أكاد أطير عن الأرض و الزهور تتفتح من حولي .. و العصافير و الأشجار تغني “ليلة خميس” ..
فتحت الباب لم أرى أمي ولا أبي ولا إخواني حمزة و حنان و شمس ..
ذهبت للمطبخ وجدتُ أمي قد وضعت لي صحن الغداء مع ورقة كُتب فيها .. “رحنا لبيت خالتك ام عمار .. كُلّ كويس و نام بكير عشان أعرف أصحيك .. بحبك هزيم”
أكلت العشاء و لم أستطع النوم طبعاً .. ما زال قلبي يخفق من روعة هذا اليوم حتى خفت عليه أن يتوقف ..
في الساعة 11 .. دق جارنا الباب .. و ما خفت منه قد حدث .. و توقف قلبي لثواني عندما أخبرني أن أذهب معه سريعاً للمستشفى .. بقيت طول الطريق أحاول إجباره أن يخبرني و الدموع تسيل من عيني .. لأني أعرف جازماً أن هنالك أمراً سيئا قد حدث .. ماذا يوجد بالمستشفى .. لماذا .. لم يرد بشيء ..
وصلتُ للمستشفى .. وجدت عائلتي كلها قد ماتت بحادث سيارة في طريق عودتهم للبيت ..
لم أصدق أولاً الخبر .. أردت أن أرى بعيني .. و حتى عندما رأيت جثث عائلتي لم أصدق أيضاً .. كنت أظن أن هنالك رابطاً روحياً .. يربط بينك و بين من تحبهم كثيراً .. فتشعر بما يشعرون .. لكن كل هذا كذب .. عندما كانت أمي تحترق من لهيب السيارة .. كنت تحت ملائتي أتخيل سلمى فأحضن وسادتي و أضحك فرحاً ..
عُدت للبيت بعد إسبوع من تلك الحادثة .. محطماً أهيم على وجهي .. فقدتُ إيماني بالحياة .. بالموت .. بنفسي .. بعائلتي .. بالحب .. ب سلمى .. بكل شيء .. فقدت إيماني بالله ..
لم أتخيل وجود حياة يحدث فيها هذا الشيء .. و لم أصدق وجود إلاه قد يفعل هذا ..
تركت الجامعة و تركت سلمى و تركت حياتي و اخترت طريق الفوضى و العبثية ..
خلال بضع سنين كنت قد قضيت على ما بناه أبي طيلة حياته .. أصبحت سكيراً فاشلاً من حثالة المجتمع .. أفلست و لم يبقى لي شيء .. كنت مهدداً بالقتل من تاجر المخدرات الذي أتعامل معه اذا لم أوفي بديوني ..
في غمرة كل هذه الأحداث .. قررت و أخيراً أن أضع نهاية لهذه المهزلة .. و أن أدفن ما تبقى من عائلة أبو هزيم للأبد ..
صعدت على الكرسي في شرفة منزلنا دليت برأسي إلى الأسفل .. نعم هذه هي النهاية .. و في لحظة ال لا شيء .. رأيت نوراً سطع في وجهي رماني إلى داخل البيت .. و إذ به ملاك أبيض رائع الجمال .. وقفت حائراً لا أعرف كيف أتصرف و ما الذي يحدث .. أمسك الملاك بيدي و وضع يده الأخرى على الخزانة .. ثم إختفى .. كنت ما زلت متعرقاً مذهولاً .. غير مصدق لما حدث و ظننت بأنه وهم صنعه عقلي بعد تلف الحبوب التي أتجرعها .. فتحت الخزانة .. صعقت عندما وجدت بعض المال و تذكرة سفر إلى السويد .. أمسكتهم و بدأت بالبكاء .. و نمت و أنا أبكي على الأرض كطفل صغير وجد أمه للتو .. في اليوم التالي سددت ديني لتاجر المخدرات .. و ركبت بالطائرة إلى السويد .. مع أني لم أسمع بهذا البلد قط .. لكني ذهبت بكل سعادة و إرادة .. لأني شعرت بأن القدر قد وجدني أخيراً .. وصلت في الصباح .. خرجت من المطار و بدأت بالمشي في شوارع ستوكهولم .. لا أعرف أين أذهب و ماذا أفعل .. لكني كنت على يقين أني سأجد شيئاً .. عندما بدأ اليأس و الملل بالتسلل إلى قلبي بعدما غَرُبت الشمس .. شممتُ رائحة عطرٍ قديم .. لم أقدر على تميزه .. لكنه جميل جداً .. ذكرني برائحة قهوة أمي و حقيبة أبي و غرفة خواتي و ملابس أخي .. ذكرني ب ..
في هذه اللحظة رأيتُ خطواتٍ سمعتها .. و شعرٍ لمسته .. و عطرٌ .. نعم هو عطرها .. سلمى ..
في هذه اللحظة أحسست بأن الزمان و المكان قد توقفا .. لكن قلبي و عقلي قد رجعا سنين طويلة إلى الوراء .. أحسست ب رجة قدمي و نبض قلبي .. أحسست بشعوري القديم ..
ركضت مسرعاً دون وعي من ورائها .. ناديت ..
سلمى ؟
أدارت بوجهها الذي يعلوه الشوق و اللهفة .. يبدو أنها عرفت صوتي ..
نظرت لي نظرة متفاجئ .. خائف .. حزين الإبتسامة ..
أوقعت معطفها الأبيض على الأرض من الصدمة .. قلت بعد لحظة صمتٍ قصيرة ..
أتذهبين معي لشرب فنجان قهوة ؟ ..
أخذتني إلى إحدى المقاهي العتيقة .. شعرها الأسود الحريري .. وجهها الأبيض .. إبتسامتها الخجولة .. عيونها السوداء .. جمالها الرائع .. كانت كما هي .. حبيبتي سلمى التي تحب الأشياء القديمة ..
دار بيننا حديث طويل .. تداخلت فيه الضحكات و المشاعر و الذكرايات إمتد لمنتصف الليل .. في لحظة سكوتٍ جميل .. نظرت لعينيها مباشرة .. و عيوني تتلألأ مثلما حدث في ذاك اليوم الذي أحب و أكره .. هل أستطيع قولها مرة أخرى ؟ ..
سلمى أنا …
-هزيم .. أنا متزوجة الآن .. زوجي ينتظرني لأعد له العشاء ..
في لحظتها شَعرت بالسماوات تُحشَر في حلقي ..
لم أظهر لها غضبي و نقمي .. يبدو أنها لعنتي .. منذ ذلك اليوم .. لا أزال جزئاً من الحياة لكني دائماً ما أقف خارجها ..
وقفت و أمسكت لها معطفها لكي ألبسها ياه عندما نخرج .. استدارت .. لاحظت وجود ضربة قوية عند رقبتها من الخلف ..
عندما سألتها قالت بأنها وقعت من على رصيف الشارع الزلق عندما أمطرت ..
خرجنا .. ذهب كل منا في طريقه .. الفرق بيننا أنها تعرف أين ستذهب .. أما أنا فكنت أعرف لمن سأذهب ..
ذهبت إلى زقاق مظلم على يسار الشارع .. موحش بقدر قذارته .. جلست على الأرض و بدأت أدعو أن يأتي الملاك مرة أخرى .. ليرشدني ماذا أفعل .. أين أذهب .. أرجوك تعال .. ليس لي غيرك في هذه الحياة .. بعد ساعات و في غمرة دعائي و بكائي لم يأتي .. في لحظة إنهزام و إستسلام .. صرخت بأعلى صوتي و أنا ألعن نفسي و البشر و الأرض و الكون .. في هذه اللحظة .. فتح باب المطعم الذي بجانبي بابه الخلفي ..
و خرج منه رجل سمين قصير غاضب يصرخ فيني و يتحدث لغة لا أفهمها .. قلتُ له: لا أفهم .. هل تتحدث الإنجليزية ؟ ..
رد بالإنجليزية : لماذا تصرخ .. هل أنت غبي .. لقد أزعجتني .. من أنت ..؟
هل أنت مجنون ؟ .. حسناً إدخل إلى الداخل ف البرد في الخارج قارص جداً ..
دخلت لداخل مطعم المأكولات البحرية الذي يملكه .. و بدأ بالحديث معي .. يبدو أنه أعجب فيني كثيراً .. أعطاني ملابس و غطاء و سمح لي بأن أنام في المطعم .. في اليوم التالي عرض علي أن أعمل لديه ..
بدأت العمل و إستأجر لي غرفة أسكنها .. بدا لي أن لطف و رحمة العالم تجلت في هذا الشخص .. خلال فترة قصيرة أصبحت صديق عائلته .. و أصبحت محبوباً لدى الزبائن و المنطقة .. أصبح لي مكانة و قيمة في الحياة و المجتمع .. أصبح لي منزل و أصدقاء و عمل .. أحسست بإنسانيتي من جديد ..
لكن .. ما زال هناك شيء ناقص ..
لا أعرف ما هو .. لكن .. ما زلت أحتاج مدة طويلة لكي أنام ..
في يوم من الأيام .. لم أستطع النوم .. أقصد .. لم أستطع النوم أبداً ..
عندما بدأ الفجر بالبزوغ .. فتحت عيني .. قلبي ينتفض .. النور غطى عيوني .. نعم إنه أنت .. إنه الملاك ..
بعد لحظات .. لم أرى شيئاً سوى بياضاً فارغ يملأ كل شيء .. ثم إختفى كل شيء .. لا أدري كيف و لماذا .. لكني شعرت برغبة بالركض .. لبست سريعاً و بدأت الركض في الشارع .. لا أدري هل أنا أهرب .. أم خائف .. أم أبحث عن شيء .. لم أفكر بكل هذا .. فقط .. كنت أركض ..
سمعتُ صراخ شخصٍ .. من إحدى البيوت .. صوتٌ ألفه جداً و أحبه جداً .. إنها .. إنها سلمى
تصرخ بأعلى صوتها تطلب المساعدة .. خلعت الباب .. وجدتها ملقاة على الأرض و الدماء تسيل منها .. و رجلٌ يرفسها بحذائه كأنه يريد القضاء عليها ..
صرخ علي و قال إخرج .. لا تتدخل .. إنها زوجتي و أنا حر بما أفعل بها ..
فقدتُ عقلي لبضع دقائق .. إسترجعت التركيز و الإدراك بعد أن أصبح الرجل على الأرض مغماً عليه ..
أتت الشرطة و أمسكت بزوج سلمى و تم طلاقهما خلال أسبوع .. إعترفت لي بأنه كان يضربها على الدوام .. لكنها لم تخبر أحد من قبل .. و تلك الليلة كانت ثورة جنون لديه و كان سيقتلها لولا تدخلي .. عندما خَرجت من المستشفى .. دعوتها لفنجان قهوة في نفس المقهى العتيق الذي تحبه ..
بدأت حديثي بِ : سلمى أتتزوجيني ؟ ..
سلمى أجابت بسرعة مع ضحكة: نعم ..
ثم سألتني: هزيم .. كيف أتيت لإنقاذي ذلك اليوم .. قلت لها .. صدفة ..
بعد شهور من التجهيز .. في اللحظة التي رأيتها فيها قبل أن نظهر أمام الناس لنتم الزواج ..
سألتني: هزيم .. كيف أنقذتي ذلك اليوم ..
حدقت بها .. و بلهفة أخبرتها قصتي و ما حدث لي بعد وفاة عائلتي .. و كيف أن الملاك منعني من الإنتحار و أعطاني المال و تذكرة إلى السويد .. و كيف أني عندما ناديت الملاك أتى رجل المطعم و أعطاني بيتاً و وظيفة .. و كيف أن الملاك أخبرني عن مكانك .. و أتى بي لإنقاذك .. ظلت سلمى تسمع بصمت .. عندما أكملت كل شيء ..
قالت: حسناً هزيم .. الآن أريد منك أن تخبرني الحقيقة ! ..
نظرت لعينها مباشرة .. و لم أستطع الكذب بعد الآن .. فأخبرتها الحقيقة ..
بأني عندما هَممت بالإنتحار دق جرس الباب .. فذهبت إليه .. و إذ به عمي يعطيني بعض النقود من حصة أبي في الدكانة .. فإشتريت تذكرة الى السويد لأني كنت أعرف صاحب المطعم و كان قد وعدني ب عمل لديه .. و عندما رأيت الضربة على رقبتك لم أصدق ما قلتي لي .. فبقيت أراقبك كل هذه المدة و عندما صرختي طالبة المساعدة كنت جالساً على المقعد بين الشجر في المكان الذي اكون فيه دائماً ..
حضنتي .. و شكرتني ..
….
لحظة لحظة .. أيها العجوز !!
هل كنت تكذب طوال الوقت!!؟ .. ثم ما دخل قصتك ب سؤالي !!
نظر إلي العجوز بإبتسامة سطحية و سألني .. ما القصة التي أحببتها أكثر .. الأولى أم الثانية ؟
قُلت: قصة الملاك بالتأكيد !!
قال العجوز: إذاً أنت مع الله ..

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى