أرطغرل بين الحقيقة والسراب

سواليف

كتبت … سارة الجزيري – طالبة مصرية
في الغالب، لست من محبي التلفاز، ولا أهوى متابعة قنواته عن كثب، اللهم إلا القليل جداً من البرامج المُنتقاة بعناية فائقة، والتي بدورها توافق أهوائي واهتماماتي.

“فور شباب” تُعتبر وجهة جيدة -منذ انطلاقتها الأولى- كلما وجدتُ في نفسي رغبةً في القيام بإحدى الرحلات السريعة الخاطفة إلى التلفاز.
“قيامة أرطغرل” كان عنواناً لمسلسلٍ، وجدتُ إحدى حلقاته مصادفةً في رحلتي القصيرة تلك المرة؛ ملابس غريبة راقتني كثيراً، لغة لطالما ألفتها فتعرَّفتُ عليها على الفور، تصوير إبداعيّ بمهارة شديدة، و”تتر” مسلسل أثار انتباهي من الوهلة الأولى.

على “يوتيوب” كان بحثي مرتبطاً بهذا الاسم، شاهدت الحلقة الأولى بتركيز ملحوظ، ولا أفهم سبب عدم شعوري بالملل في مدة قاربت على الساعتين أو ربما أكثر، أخذت ورقةً وقلماً وسجَّلتُ ما استفدته من هذه الحلقة، فوجدتُ قلمي لا يستطيع التوقف عن التوثيق.

بحثتُ عن “أرطغرل” تاريخياً، فعثرتُ على معلوماتٍ شحيحة جداً بالنسبة لبطلٍ تاريخيّ؛ دفعني ذلك إلى تسجيل بعض دروسي المُستفادة على “الفيسبوك”؛ لعلي أجد من يشاركني معلومةً لم أصل لها، وسعدتُ جداً بتعليقٍ من إحدى صديقاتي التي بدا لي -من التعليقات- حينها أنها الوحيدة التي تعرفه وتتابعه ممن أعرفهن، لم أصل لمعلومة إضافية، ولكن ربما مشاركة إحداهن لي المتابعةَ كان بمثابة انتصار صغير.

مع مرور الوقت وبالتدريج زاد معدل الكتابات التي تهتم بهذا المسلسل، وبطبيعة الحال كنت أراقب أية ردة فعل تخصُّ هذا العمل، الآراء إما كانت إيجابية حد التقديس وإما سلبية حد الشيطنة كما إبليس، أما عن تلك “الفئة الوسطية” فقد كان من النادر الحصول عليها -إلكترونياً- رغم تواجدها بكثرة -واقعياً- بين الجماهير.

قيل لي إن سلبيات المسلسل جعلت من بعض الشيوخ يُفتون بتحريم مشاهدته، ومن الجماهير من رأى أن اعتبار المسلسل “عملاً إسلامياً” هو جريمة شنيعة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ومن أخذه كـ”مرجعٍ تاريخيٍّ” عن حياة البطل الحقيقيّ فهو محض افتراء، وأن تفاصيله ما هي إلا مغالاة واضحة في وصف حياة قبيلة “الكايي” عامةً و”أرطغرل” وزوجته “حليمة” خاصةً.

أما فريق الإيجابيات المُطلقة فينكر على فريق السلبيات المطلقة كلَّ ذلك جُملةً وتفصيلاً وينفيه تماماً.

بالنسبة لحرمانية المسلسل من عدمه فنحن لسنا أهلاً للفتوى؛ لعدم اختصاصنا بهذا الأمر، فهناك من العلماء من يشاهد هذا المسلسل أيضاً ويمتدحه، وعلى الجانب الآخر هناك من يحرّم مشاهدته كما أُخبِرت.

وأما عن أخذ المسلسل كـ”مرجعٍ تاريخيّ” لا يقبل الشك! فهذا بالتأكيد ضربٌ من ضروب الخيال، وأيضاً نفيّ صحة أيٍّ من هذه الأحداث نفياً تاماً هو افتراءٌ بيّن وظلم واضح للقائمين على العمل، الذين بذلوا مجهوداتٍ جبّارة واضحة للجميع ويرونها رأي العين.

فالمعلومات المتوفرة عن “أرطغرل” شحيحة -كما قلت سابقاً- بالمقارنة مع شخصياتٍ تاريخية أخرى، وهناك من المعلومات ما تجد فيه تضارباً واضحاً أيضاً؛ فكان لا بد للقائمين على هذا العمل من ملء تلك الفراغات بتفاصيل قد تكون صحيحة أو غير صحيحة، لكنها -على الأرجح- ستكوّن الصورة الكبيرة والمعلومة الواضحة التي نتفق على صحتها اعتماداً على ما وصل إلينا تاريخياً عنه.

غير أن المؤرخين ليسوا دائماً على حق، فكلٌّ ينقل الصورة من وجهة نظره، فيما آلت إليه مجهوداته الشخصية -سواء بدليل أو بغير دليل- فكم من مؤرخين اعتمدنا على صحة استنتاجاتهم وتبيَّن لنا النقيض فيما بعد!

اعتبار المسلسل “رمزاً إسلامياً” صافياً والتسليم بما فيه هو نوعٌ من أنواع المُبالغة، ونفيُه نفياً تاماً هو أيضاً كذلك، فهناك بعض الأخطاء بكل تأكيد، لكنها ليست كارثيّة بالنسبة إلى قريناتها من المسلسلات التركية، أو الأعمال الفنيّة التي تشارك المسلسل نوعيته وهدفه العام.

وبين الهجوم الشرس والدفاع المستميت -بحجةٍ قوية كانت أو واهية- توجد فئة أخرى وجب عليها أن تُعبّر عن نفسها كفايةً في ظل هذا الصراع.

تلك “الفئة الوسطية” نجدها لم تختر أن تكون أحد طرفي الصراع القائم، إما بالسلبية المُطلقة أو بالإيجاب المطلق! فقط قررتْ أن تقف في المنتصف، بين هذا وذاك، تتبنَّى الجيد والحسن سلوكاً ومُعلّماً لها، وتتخذ من السلبيات صغيرةً كانت أم كبيرة تذكرةً لها بالتمسك بالصراط المُستقيم.

* “تتر المسلسل” هو بمنزلة إعدادٍ روحيّ، وحكاية تاريخية أصيلة في ذاتها، رُغم عدم احتواء التتر على أيّة كلمات. الصور المعروضة لأدوات المعركة التي تخص قبيلة “الكايي” توحي بتهيئة المشاهدين لخوض رحلة جديدة برفقة قبيلة “الكايي” وبطلها السيد “أرطغرل”.

* ولا يخفى على أحد “ذكر الله” الذي لطالما لازم أفراد القبيلة -وخاصةً أبطالها- في كافة تفاصيل حياتهم. يفرض مشهد “ديلي دمير” نفسه بقوة حينما يتناوب مع ” أرطغرل” أثناء العمل بالذكر “حيّ هو الله.. الحق هو الله”؛ فصدقاً “ألا بذكر الله تطمئن القلوب” وتحلُّ البركة والأمن باسمه.

* “اكتولجالو” هو صديق أرطغرل، حصانه وحصنه المنيع، ملجؤه عندما يختلي بنفسه عند تلك الشجرة المُعتادة، في إشارةٍ واضحة بضرورة الاختلاء بالنفس من حين لآخر ومحادثتها، ولا بأس أيضاً بمحاسبتها واستخلاص العبر من المواقف الحياتية اليومية البسيطة منها والعظيمة أيضاً وتذكرة النفس بها.

* “اختر الصديق قبل الطريق”؛ فكم من أهدافٍ عظيمة وصل إليها “أرطغرل” بعون من الله ثم بمساعدة محاربيه وأصدقائه، وكم من طعناتٍ وُجّهت إليه ممن ظنهم الأقربين إليه. فلولا إيمانهم القويّ لكانت طعناتهم تلك الضربة القاضية، فاحذر الخيانة من الداخل بقدر حذرك من أعداء الخارج أو يزيد.

العديد والعديد من الرسائل التي لا يُمكن حصرها ها هنا، اتخذتها “الفئة الوسطية” سبباً لإكمال طريقها مع “قيامة أرطغرل”، غير عابئة بالصراع الدائر بين المثقفين، المؤرخين وبقية الجماهير.
فـ”قيامة أرطغرل” من وجهة نظرها يستحق، يستحق بكل تأكيد.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى