أحلام مروان (قصة قصيرة) / وائل مكاحلة

أحلام مروان
(قصة قصيرة)
مروان يصحو كل صباح إلى عمله، يقضي النهار في شقاء وتعب ولأواء، ويعود منهوك القوى مساءا كي يأكل وينام، وحين يمد جسده المكدود على فراشه الخشن تراوده أحلام اليقظة.. فيطفق محملقا في سقف غرفته الرطيب يتابع الوزغات التي تعبر أمام ناظريه جيئة وذهابا، يرى مروان في الحلم فراشا ناعما ينسيه تعب النهار، يحمل عنه بعضا من أحلامه الوردية التي ما انفكت تزوره واعدة إياه بأيام أجمل..

حتى حين ينام لا يحلم بأكثر من ذاك الفراش، لا لراحة شخصية.. فقط كي يذهب إلى عمله في اليوم التالي نشطا لا يعاني ألم فقرات الظهر والرقبة، ولا الحكاك الناتج عن دبابيس الخيش الخفية..

يرى مروان يوميا صنوفا من التنكيل بإنسانيته، صحيح أنه لم يعد يبالي كثيرا بصراخ رئيس الوردية ولا بحرمانه وزملائه من العمال من ساعة الاستراحة التي تنص عليها القوانين دون أن تطبقها، لكنه كان يرى في هذا كله ضريبة لا بد أن يدفعها من أتقن فن التنفس بلا حياة.. والأكل بلا عيش.. والتنهد بلا حب يلوح في الأفق، لكنه كأيٍ من تلك الكائنات التي تمشي على إثنين يحلم!!.. فهل يكون الحلم جريمة؟..

حتى لو حلمت بأنك تحكم بلاد القوانين العادلة بلا عدل في تطبيقها.. فلا أظن أن في الأمر جريمة…!!

مقالات ذات صلة

عاد مروان في ذلك اليوم منهكا، فرمى بجسده المتعب على أريكته ذات ال 678549 مسمار، شعر بنخزاتٍ لخمس مسامير على الأقل في ظهره، لثوانٍ أغلق عينيه متألما وأطلق سُبّةً بذيئة.. ثم استوى في جلسته كمن اعتاد أمرا كهذا، أدار عينيه في حظيرة الخنازير التي يسكنها متسائلا إن كان بإمكانه إصلاح حالها ليبدو أفضل قليلا.. أشبه بحظيرة للثيران على الأقل!!.. تركز نظره على منضدة صغيرة أمامه، حيث ترقد مجلة من تلك المجلات المستهلكة التي يشتريها من العم صالح العجوز على ناصية شارعه، أراد الاعتدال ليتناولها لكن عقله المكدود طرد تلك الفكرة قبل أن يوصلها لأطرافه، أخيرا تغلب على عقله ودفعه لإرسال إشاراته رغما عنه وتناول مجلته التي اشتراها منذ يومين مؤجلا قراءتها لما بعد..

ما أجمل تلك الصور!!.. رأى على الصفحات الصقيلة صورا لفندق ما من فنادق المدينة السياحية، هو فندق فخم لا يؤمُّه سوى من يطمئنون أن أرصدتهم نائمة مطمئنة مثلهم في البنوك، قلّب في أوراق المجلة متلهفا حتى عثر على ضالته.. رأى صورا لغرف الفندق من الداخل بأثاثها الفاخر وفراشها الوثير بملاءاته ناصعة البياض، شعر بثقل في جفنيه وأن الضوء الباهت الساقط من سقف الحجرة يحرقهما.. فأغلقهما مسلما للإنهاك أمره، فقط ليلج في حلم جديد من أحلامه التي لا تمل الفرار من الواقع، رأى نفسه يدلف إلى غرفة الفندق ذاتها آمرا خادم الغرف بوضع الحقيبة والرحيل ببقشيشه السخي، ثم يخلع نعليه الفاخرين ويضع سترته الأنيقة على حامل الملابس بجانب الدولاب، ويرمي بجسده على الفراش الناعم الوثير شاعرا بأنه يغوص فيه حتى القاع..

من الغريب أن تحلم وأنت نائم بأنك نائم.. لكن الحقيقة أن لا دور للمنطق في عالم الأحلام المتشابك المعقد، كل ما تراه في الحلم خارج عن حدود المنطق يلعب على الحد بين الخيال والفانتازيا بألوانها البراقة، المهم في الأمر أن لا يد لك فيما تراه، لا تملك أن تمنع نفسك من الموت إن متّ، ولا أن تأخذ معك كنوز سليمان إلى عالم الواقع إذا ما وجدتها سابقا عصرك وكل من بحث قبلك، لهذا… إستيقظ مروان ليجد أنه لا زال على جلسته تلك، كل شئ كما هو لم يتغير.. رائحة التراب في ملابسه وأصابع قدميه ما فتئت تشكو قلة التهوية طيلة النهار.. فقط على ثغره تلاعبت ابتسامة غامضة لن يفهمها سواه..

في اليوم التالي طلب مروان من رئيس النوبة مد نوبته ست ساعات أخرى ليعمل ثمانية عشرة ساعة، حذره رئيس النوبة أن هذا سيضر بصحته، لكن مروان كان مصرا كجباة الضرائب، قال رئيس النوبة محدثا نفسه وهو يراقب ظهر مروان الذي يبتعد عائدا إلى عمله: “هذا الفتى يمضي إلى حتفه كأبطال القصص”..

بعد ثلاث أشهر كان قد جمع مبلغا لا بأس به أبدا.. لكنه كان في حالٍ يرثى لها وقد بلغ منه التعب مبلغه، طلب من عماد زميله الذي يقاربه حجما وأبعادا أن يعيره بزته التي ارتداها يوم عرسه، وطلب من عادل أيضا حذاءا جيدا يصلح لمناسبة ما وحقيبة سفر محترمة، سخر منه زميلاه ظنا منهما أن مروان على موعد غرامي، هو وحده كان يعلم أنه على موعد غرامي فعلا.. لكنه غرام من نوع آخر تماما، ذهب إلى بيته بعد انتهاء عمله، حلق ذقنه وأخذ حماما دافئا، وحين خرج وقف أمام المرآة يعدل هندامه.. ثمة بقعة من العصير الرخيص على القميص، لا بد أنها حدثت عندما تظاهرت عروس عماد بالسعادة والحب وهي ترمي في جوفه ما يحويه الكأس المذهب الذي يفتتح به العروسان حياتهما الزوجية.. الخائبة غالبا، هو متأكد أنها تظاهرت..

” من تلك الحمقاء التي يمكن أن تحب عمادا ؟!! “… هكذا قال في نفسه وهو يعدل ربطة العنق كما علموه…!!

دلف مروان إلى غرفة الفندق حقيقة لا حلما هذه المرة، وخلفه سار خادم الغرف محنيا رأسه في احترام وسأله إن كان يريد شيئا آخر، إنتظر قليلا لكن مروان كان مأخوذا لم يحرّ جوابا، فوضع هذا الحقيبة من يده وخرج ساخطا، أدار عينيه فيما حوله.. كل شئ في مكانه كما رآه في صور تلك المجلة، التلفاز المعلق كأنه صورة زيتية، المزهرية التي تحوي زهورا يانعة على منضدة تتوسط الغرفة، الفراش الوثير المرتب كأنما لاستقبال وزير ما، الشرفة التي تطل على المسبح الذي تسبح فيه حواري الأرض في أثواب السباحة القصيرة كأنهن أسماك في ألوان بديعة، هذا كله لم يكن يغريه أبدا.. فقد تعلم مروان ما له وهو ضئيل.. وما عليه وهو كثير، النساء لم يدخلن يوما في مخططات حياته.. بل لم يستشعر في نفسه يوما ميلا لهن، أزاح عن رأسه تلك الترّهات وأسدل ستارة الشرفة، ثم نضّ ثيابه معلقا إياهم على المشجب بجانب الدولاب.. فعل كل ما رآه في الحلم تلك الليلة منذ أشهرٍ ثلاث، حتى لقد بدا له المشهد أشبه بنوبة “الديجافو” التي تكرر ما تراه في عقلك الباطن فيبدو ذكرى بعيدة، أخرج منشفته من الحقيبة ودخل الحمام شاعرا بأن روحه ترقى وترقى حتى تلامس الجنة…!!

تحت الماء المنهمر من الدش وبين رغاوي الصابون.. تمنى مروان ألا يخرج أبدا !!.. تخيل أن تستحم في حمام كهذا وتنسى ذلك الدلو الذي كنت تملؤه ماءا بالأمس لتسكب ما فيه على أم رأسك !!… تخيل هذا وتخيل ذاك وحاول أن توجد لي قاسما مشتركا بين حالك في الحالين.. طبعا شتان بين الشتيتين…!!

بعد طقوس الحمام والتنشيف ولبس ما هنالك.. سمع مروان طرقا على باب حجرته، فتح الباب ليجد الشاب المسؤول عن خدمة الفندق يدفع أمامه عربة عليها صحاف مغطاة، رصها الشاب على المنضدة في وسط الحجرة وتمنى للنزيل الكريم عشاءا هنيئا وخرج، للحظات اشتم الروائح الزكية التي تنبعث منها مغمضا عينيه، ثم اتجه إليها وأزال الأغطية المعدنية الرنانة لتظهر تحتها أطايب الطعام التي طلبها، تشمم الهواء للحظات أخرى ثم شمر عن ساعديه وارتفعت أصوات القطع والقضم والبلع..

وحين انتهى من طعامه.. وحين اتجه للفراش.. وحين غاص فيه للقاع كما كان يحلم….. نام كرضيع تهدهده أمه بعد رضعة دافئة…!!

في المنام لم ير ما يراه دوما.. كان ما راوده غريبا إلى حد كبير، رأى غرفته الحقيرة بكل تفاصيلها فيما عدا أن المخلوقات التي كانت تشاركه حيز الفراغ القذر ذاك تضخمت إلى حد مخيف، كان يرى الفئران التي تعيش في صدوع الجدار وقد أصبحت في حجم الكلاب، والعناكب صارت تماثل القطط حجما.. حتى البعوض ظهر مخيفا وقد قارب الجرذان حجما وشراسة، ثمة من يطرق بابه فيتجه إليه محاذرا أن يصطدم بتلك الكائنات التي تعج بها حجرته، يفتح فيطالعه وجه جندي صارم لا يعرف المزاح، الجندي يكلمه بالألمانية التي صار يفهمها فجأة دون مقدمات…!!

الفوهرر يريده !!.. ماذا يريد هتلر من مروان البائس الذي لم يحلم بمقابلة رئيس البلدية يوما؟!..
يرى نفسه فجأة أمام هتلر بشاربه القصير المضحك وهو يلومه.. على أي شئ؟.. على خسارة المعركة في العلمين طبعا.. هذا واضح !!.. حكم الإعدام.. صوت الرصاص.. ثم لا شئ !!
يختفي هذا كله ليرى نفسه في الكولسيوم العظيم.. رمز روما العتيقة.. الأرينا التي كان يتسلى حولها الساديون ممن يهوون مراقبة الوحوش وهي تلتهم المسيحيين الجدد..
ثمة أسد يركض نحوه ثم يعتلي صدره.. يزأر كأنه لا يريد لصوت آخر أن يطغى على سمع صاحبنا، ثم تتجه أنيابه للنيل من نحره..
ستالين منزعج منه يبغي إلقاءه في سيبيريا.. روزفلت اللطيف الرأسمالي يقدم إليه يده لينتشله من وكر الشيوعيين..
جيفارا يرحب به كعضو جديد في جبهة معارضة أربينز..
جيفارا ورفيقاه كانا صالحين.. كيف أخذت أمريكا منهما غوانتانامو إذا؟!..
يفكر هذا وهو يرتدي البزة البرتقالية المميزة لرواد غوانتانامو فعلا…

أخيرا يستيقظ مروان من نومه في تلك الساعة المبكرة غارقا في العرق، يجلس على طرف الفراش محاولا استيعاب من هو وماذا يفعل هنا، أخيرا نهض.. لبس ثيابه كالمخدر، ثم حمل حقيبته مغادرا الفندق الفخم إلى الشارع الرطب البارد في تلك الساعة، لا يشعر أبدا بلسعة البرد كأنه فقد الحس كما فقد النطق..

صاحبنا عاش عمرا في تلك الحجرة الحقيرة يرى أحلام الدعة، حتى إذا ما لاحت هناك فرصة ليعيش ليلة من أحلامه خرجت كل شياطين الأرض لتنال من راحته..

ألا يذكركم هذا بأمة ما ؟!!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى