آفة التعصب / د . هاشم غرايبة

آفة التعصب
يعتقد كثير من الناس أن هناك تلازم بين مفهومي التعصب والتطرف ، هما مختلفان لكن قد يجتمعان عند شخص ما ، التعصب حالة من الجمود الفكري وإغلاق أبواب الحوار أمام تعديل الفكرة ، أما التطرف فهو اتخاذ الموقف الأقصى درجة من الإقتناع بتلك الفكرة .
منذ الأزل كان التعصب إحدى سمات ضعف الحجة ولذلك فهو سلاح الحماية الأساسي لقناعات المرء من أن تضعف أو تتعدل ، تماما مثل قوقعة السلحفاة التي تدخل نفسها فيها حماية من كل ما هو خارجها ، وبذلك يصبح عالمها محدودا بالحيز الذي تتيحه قوقعتها .
بما أنها حالة ذهنية مرتبطة بتعلق المرء بفكرة ما بسبب اعتقاده بأنها صحيحة وان لا شيء مما ينقضها صحيح ، لذلك فقد تنشأ حول أي معتقد ، فليست حكرا على رؤية ما أو فكرة أو عقيدة ، بل أن كل فكرة تجتذب أشخاصا ممن تهيؤاتهم الذهنية تتوافق مع منهج التعصب .
منذ البداية تشكلت العصبيات الأصغر ، ثم توسعت وتعمقت : العائلة فالعشيرة فالقبيلة فالقومية فالعرقية ، بعد أن نزلت الرسالات السماوية ، كان فيها تصحيح لبعض الإعتقادات البشرية الفاسدة.
رفض أغلب البشر للفكرة الدينية لأنها تضع كثيرا من الضوابط السلوكية ، وتُحمّل معتنقها كثيرا من الإلتزامات الأخلاقية تجاه الآخرين ، و تَحدُّ من حرية اتباع المرء لشهواته وغرائزه الحيوانية ، لذلك كانت الدوافع في البداية تحللية من القيود أكثر منها تعصبا للفكرة المضادة للدين .
كان مفهوما تعدد العصبيات بحسب تعدد القوميات والأعراق ، كما كان متوقعا تمسك كل فريق بما تعصب له لأن هذه الإنتماءات متباينة ومصالحها متناقضة مع بعضها ، حيث يسعى كل طرف للإستعلاء على الآخرين .
لكن ما ليس مفهوما نشوء العصبيات الفرعية بين أتباع النظرية الدينية ، لأن مبدأها واحد ومصدرها هو الله ، لكن الأنانيات الإستحواذية عند البشر ، والرغبة بالإستئثار سادت، لذلك تعصب كل أتباع رسالة سماوية لرسالتهم، وانكروا الرسالة التي تلت، رغم أنها جاءت مصدقة لها ومكملة وليست نقيضة لها .
لكن التعصب لم يتوقف عند هذا الحد بل تفرع داخل أتباع الرسالة الواحدة ، فنشأت مذاهب وفرق متناحرة ، أوصلت الأتباع الى تقاتل استئصالي بعد أن بلغ التعصب مبلغا أدى الى توقف الحوار، وهكذا يصل التعصب أقصاه عندما لا يتمكن المتعصب من فرض رأيه بالنقاش ، يلجأ الى إسكات الرأي الآخر بالقوة معتقدا أنه بذلك فرض رؤيته ، لكنه واهم فلم يتم يوما أن انتصرت فكرة بالقوة ، ما انتصرت إلا إن آمن بها الآخر عن قناعة ، والدليل أن كل الإمبراطوريات القديمة أخضعت الشعوب بالقوة وفرضت عليها ثقافتها ، حينما قويت تلك الشعوب طردت الغزاة واستعادت ثقافتها الأصلية .
الدولة الإسلامية حينما توسعت ، لم يكن ذلك بفضل القوة العسكرية ، بل بقناعة الشعوب بمبادئ الإسلام ، بدليل أن تلك الشعوب لم تثر على الدولة الإسلامية حينما ضعفت ، ولم تستعد ثقافتها الأصلية حينما انحسرت ، بل حافظت على الثقافة الإسلامية وتمسكت بها ولا زالت .
ما نخلص إليه في النهاية أن التعصب آفة ضارة ، وهو من أهم أسباب فشل مشروع أمتنا النهضوي ، يكمن الحل في ادراك أهمية ما يلي :
1- أمتنا العربية الإسلامية تضم خليطا من القوميات انصهرت إسلاميا فكونت مركبا جديدا : العرب ، الأتراك ، الأكراد ، الفرس ، الأمازيغ .. الخ ، وخليطا من الأديان المنصهرة عربيا : الإسلام ، المسيحية ، القبطية ، اليزيدية .. الخ .
2- لا يمكن تفكيك هذا العنصر أو استبعاد أي مكون ، فعلى الأغلبية عدم اغفال دور الأقلية والحفاظ على حقوقها غير منقوصة ، وعلى الأقلية التوقف عن التعصب التقوقعي خوفا من الذوبان ، فذلك يستجلب ردود فعل ضارة .
3- قدر هذه الأمة أن ينالها أذى الطامعين بسبب موقعها ، وكيد المعادين بسبب حملها لرسالة هداية البشر ، ولن تنعم بالإستقرار جراء ذلك ، لذا يفترض تلاحم مكوناتها ، فلا الأقليات بقادرة على السيطرة ، ولا الأغلبيات بإمكانها إلغاء الأقليات ، التعصب الفئوي لن يفلح ، واستقواء أية أقلية بأذرع الخارج لن يحقق لها نصرا بل يعرضها للأذى .
4- متى ما ترسخت هذه القناعة ، نكون قد وضعنا الأساس المتين للنهضة .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى