آخر الصيف..

مقال الخميس 25-8-2016
آخر الصيف..
النجار يغلي إبريقا من الشاي فوق قصاصات الخشب الزائد ،بعد أن أنهى تسليم آخر غرفة نوم قبل أسبوع ، المطرب الشعبي يجمع شباب الحي باب دكان ، ليسكب لهم ما امتلأت به حنجرته من غناء بعد نفاد الأعراس، مستطيل من تراب وعلامات طوب مكسّر وغرزات عميقة في الأرض تشبه اقتلاع الشوك من الجلد ، تشي بمعرّش بطيخ مُزال..حقائب مدرسية تتدلى على أبواب المكتبات ، ومراييل زرقاء للصفوف الأولى تتأرجح في الهواء تنهض منكبيها أحلام الطفولة..صبي “الأوتوستراد” يؤشّر بيده اليمنى على “صندوقي تين” للسيارات المسرعة ،يخذله الجميع فيغطي عينيه من تشفّي الشمس..كوم من الدرّاق المًهان على ظهر “بكم” يباع بربع السّعر، وسائق “البكم” يحلف أغلظ الأيمان لزبائنه أن الثقوب في حبات الدرّاق ليست الا “نقرة طير”؛فبعُرفنا … الدود مهانة ونقر الطير فيه من الزهو والمفخرة ..
تهتزّ شجرة المشمش الممشطة عند الغروب فتسقط ورقة صفراء واحدة فوق البئر..الورقة الصفراء في جديلة المشمش تشبه الشيبة البيضاء في غرّة ثلاثينية..انتصاف العمر ،أو البدء في انتصافه هي منبه بين غفوتين،أو غفوة بين منبهين ، مزعج رنينه لكنه يوقظ العينين جيداً…
آخر الصيف ،تقرع الدالية آخر أجراس العنب..وتصبح الألعاب النارية ظاهرة كونية نادرة الحدوث ، يصبح الحديث عن هناك أكثر من هنا..يفتح المغترب هاتفه على موقع شركة الطيران يتأكد من موعد الرحلة وساعة الوصول..يسرح قليلاً ، يأخذ شهيقاً عميقاً ثم يستأنف الحديث عن هنا..في آخر الصيف تنزل الحقائب الغافية على وسادة السفر ، ينفض عنها غبار حزيران وتموز وبعض آب .تزال عن أيديها لواصق رقم الرحلة الماضية، واسم الخطوط الماضية ، والأحلام الماضية ، يتم تفقدها جيداً…تخيّط الأيادي التي قطعها الوداع المتكرر و مسافات السفر ، تُرفى جوانبها من فتق أحزمة المطارات الدائرية ونزق الحمّالين..يتم إصلاح عجلاتها بخيط مؤقت كما إصلاح العمر بحلم مؤقت ، فقد أعطبتها صالات المغادرة وقضم أظافرها الركض وراء لقمة العيش ، الحقيبة آخر ما يتركه المسافر من يديه عند المغادرة وأول من يفلته من يديه عند القدوم…هي وطنه المختصر،وهي جواز السفر، في قلبها الكبير تطوى قمصان الإجازة ،ليالي الصيف المشغولة بالفرح ، بعض ألعاب الصغار ، قيظ النهار، طقوس السهر الليلي كلها تطوى تباعاً فوق بعضها..ثم يغلق “سحّاب” الحقيبة على كل هذه الذكريات، فتصوم عن البوح لعام جديد…
آخر الصيف..تجرّ العربة المثقلة بالحنين ، تواسي الحقائب الكثيرة بعضها في بطن الطائرة فيمسح الغيم دمعها الحزين..آخر الصيف، وقبل الصعود إلى الطائرة.. يهمس المسافر من تحت النافذة لموظف الجوازات:
” أرجوك خذ قلبي بدلاً من جوازي واختمه بـــ”القدوم”…فقد امتلأت صفحاته يا صاحبي بالمغادرة..أرجوك ، تجرأ فأنا اكره النداء الأخير..أكره صوت التأكيد بعد تلك الصافرة”..

نداء..نداء..نداء..للمسافرين الى .. يرجى التوجه الى البوابة رقم…

احمد حسن الزعبي
ahmedalzoubi@hotmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫10 تعليقات

  1. آخر كل شيء بداية أخرى لشيء آخر .. تمر بنا الأحداث .. والفصول والمواسم .. وتبقى رائحتها تسكن الذاكرة . وعندما تغزونا فجأة. بمرور رائحة .. بأغنية .. بطيف .. يتفجر الحنين

  2. قلمك ينطق بلسان حال ما يقارب المليون مغترب اردني .. يركضون وراء لقمة العيش ليكتشفوا في اخر العمر انهم باعوا اعمارهم ثمن لبيت او حتى لمشروع صغير في اخر العمر .. هل تستاهل كل تلك الالام .. لا أضن و حسبي الله و نعم الوكيل على كل فاسد مفسد في وطننا

  3. الله الله يا أستاذ أحمد الزعبي! كلماتك دوماً أكثر من رائعة مثلك. جعلتني أذرف الدموع بالرغم أنني أقسم بالله العظيم لم أخرج من هذا البلد الحبيب الأردن و لا مرة في حياتي. و لكن كلماتك دخلت قلبي. الله يعطيك الصحة و يسعد صباحك.

  4. من اروع المقالات للاستاذ حسن الزعبي

    الله يحفظلك هالموهبة وهالملكة

  5. الحقيقة المرة اننا بعد وصولنا الى بلاد الاغتراب وجدنا الراحة النفسية ورغد العيش والحمد لله فلا داعي للتباكي نعلم ان كل مغترب يركب افخم السارات وياكل باحلى المطاعم ويرتاد اكبر المولات ويشتري احسن الماركات في اخر اجازة تمنينا الرجوع بسرعة الى الغربة حيث لا كذب ولا نفاق اجتماعي وللحديث بقية

  6. اخر الصيف نعد انفسنا لاستقبال المطر..نتفقد النوافذ التي يمكن ان تتسلل منها حبات البرد…فنتذكر همسات الريح التي كانت تعبر من خلالها وتصحي امسيات الطفولة الغافية على صفحات العمر…اخر الصيف جميل لانه ينبأ بالمطر وفراق الاحبة الذاهبين الى لملمة الرزق وكسب العيش الكريم رغم قسوته ومرارته الا انه ايضا يشبه الى حد ما الغيث ..فهناك تبنى الامال وتتحقق الاحلام ..ادعوالله ان يحفظ كل مغترب ويرده كل عام سالما غانما

  7. المغتربون يحملون الوطن في قلوبهم قبل حقائبهم…يفرحون وهم يهبطون في مطار الملكة علياء الدولي..ويبكون وهم يقلعون منه الى ديار الغربة..
    المغتربون يساهمون في تخفيف نسبة البطالة بالبلد ويحولون اليه العملات الاجنبية حصاد شقاء اعمارهم ويدافعون عنه بالخارج ..ويوفرون على الدولة مصاريف التعليم والعلاج والخدمات…ولكن لا احد يحملهم لا داخل ولا خارج الوطن…
    الاخ والصديق احمد الزعبي جرب الاغتراب مثلي في دبي لعدة سنوات…وهو يعرف مرارة المغترب عندما يعود ويعاملونه الجميع على انه شوال مصاري…والشاطر اللي بدو يستغل هذا المسكين..
    سمعت مؤخرا ان هناك ملحق عمالي للاردن في الامارات فبكيت من الضحك..انا لي عشرون عاما هنا ولم اسمع باي انجاز لعطوفته…تنهى خدمات الاردنيون بشكل تعسفي من الشركات ويسجنون لقضايا مالية وخلافه ولا تتدخل السفارة ولا الملحق العمالي اياه ولا حتى يردون على الهاتف
    من سنوات ونحن نطالب باعتماد خدمتنا في الخارج لغايات التقاعد اسوة بمصر وتونس ومعظم الدول ومنحنا اعفاءات جمركية تليق بما قدمناه للوطن ولكن لا حياة لمن تنادي
    المغتربون يعانون مرارة الاغتراب ومرارة الاهمال عداك عن الاستغلال…والمرين احلاهما مر

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى