دروس مدحت باشا / يوسف غيشان

دروس مدحت باشا
يوم كان مدحت باشا والياً عثمانيّاً على العراق عام (1869) ، جمع أعضاء مجلس الإدارة ( وهو يوازي مجلس الأمة أو البرلمان حاليا ) واقترح عليهم أن يكتبوا إلى الباب العالي العثماني استئذاناً بزيادة الضرائب ، فصفق أعضاء المجلس استحسانا لهذا الاقتراح ، وكتبوا محضراً باستئذان الزيادة ، وختموه بأختامهم .
في الجلسة التالية ، عرض عليهم مدحت باشا اقتراحاً مضادّا لاقتراحه الأوّل .. أن يكتبوا للباب العالي إقراراً بأنّهم تسرّعوا في قرارهم الأول باستئذان رفع نسبة الضرائب ، وبأنهم وجدوا الضرائب الحالية ثقيلة على كاهل المواطن ، ويستأذنون بتخفيضها.
طبعاً صفّق أعضاء المجلس لهذا الاقتراح أيضا ، فأسرعوا إلى كتابة الإقرار الجديد ، وختموه بأختامهم .
مدحت باشا بعد أن تسلّم الإقرار الثاني ، أخرج الاستئذان الأول وأضافه إلى الثاني ومزّقهما معا أمام أعضاء المجلس.
أراد الوالي أن يعلّم المجلس درساً ، بل دروسا عدّة مضادّة للنفاق وضعف الشخصية والانتهازية والتصفيق للمسؤول مهما قال ومهما لم يقل .
كان مدحت باشا من أفضل الولاة و له أياد بيضاء على العراق وسوريا والأردن ، وليس غريبا أن ينضمّ إلى معارضي السلطان الذين كانوا يطالبون بالدستور والحرية والديمقراطية ، وليس غريباً أن يستبدله الباب العالي العثماني بولاية تونس التي وهبها لفرنسا مقابل تسليم مدحت باشا للسلطات العثمانية ، حيث تم إعدامه .
وإن كنا نلوم مجلس الإدارة ذاك ، وهو مجلس قائم على التعيين من قبل الأتراك ، فماذا نقول الآن في مجالس منتخبة من قبل الشعب ، لكنّها ما تزال تمارس عملها على طريقة مجلس إدارة مدحت باشا ؟؟.. يعني دروس مدحت باشا لم يستفد منها أحد منّا حتى ساعة إعداد هذا البيان .
للأسف فانّ عقلية مجلس الإدارة وعقلية الباب العالي هي السائدة ، لكأنّ إعدام مدحت باشا في بدايات القرن المنصرم كان إعداما لإمكانيّة تطوّر واستقلال السلطة التشريعية في العالم العربي … هذه السلطة التي ما تزال تابعة بشكل أو بآخر لربّ العمل ، وما تزال مجرد بستان قريش لرئاسة الدولة أو للحزب الحاكم .
المشكلة الأكبر أنّ الرئاسات العربية الحالية لا تمزّق الاستئذانات والإقرارات ، بل تحتفظ بها من أجل المزيد من الابتزاز والإذلال والهيمنة على السلطة التشريعية .
لكن…….!!!!
هل تذكرون قصة الرجل الذي أراد أن يقهر امرأته ، فقام بخصي نفسه ؟
هكذا نحن حكاماً ومحكومين !!
هكذا السجان والمسجون فينا !!
هكذا نحن …. لسنا منافقين ، بل أنّنا النفاق ذاته !!
لسنا مهزومين ، بل إننا الهزيمة عينها!!
لسنا منخورين ، بل إننا الدودة التي تـــنخرنا!!
من كتابي(لماذا تركت الحمار وحيدا)الصادر عام2008

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الاستاذ الاديب الاردني القدير يوسف غيشان المحترم جميع مقالاتك جميله ومقر وءه واجمل ما فيها اسقاطها على مانعيشه من واقع صعب فعلا وفقك الله ودمت من مبدعى اردننا الغالى.

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى