البرزخ / سهير جرادات

البرزخ
سهير جرادات

يطلق في اللغة على أي حاجز أو منطقة تفصل بين شيئين ، لا يختلطان ولا يتمازجان مع بعضهما ،رغم اتصالهما اسم ” البرزخ “، كما هو الحال في الفصل بين مياه البحر العذب والمالح عند نقطة التقائهما، بالرغم من اختلاف درجة الملوحة والكثافة والحرارة واللون ، على أن يبقي كل منهم كما هو، دون زيادة أو نقصان.

هذا هو ما ينطبق على غالبية الغيورين على الأوطان في أيامنا هذه ، إذ أصبحنا نعيش في منطقة ” البرزخ ” ، التي تفصل بين المنطق واللامنطق ، بين ما هو صحيح وما هو خطأ ، بين مفهوم محدد ومفهوم آخر مناقض له ، لكننا لا ننتمي لا لهذا ولا لذلك ، وأصبحنا نقف محصورين في منطقة تفصل بين شيئين لهما قيمتهما ، سواء أأدركنا أم لم ندرك قيمة أو خطورة الأمر، فنحن لا نمتلك إلا أن نعيش في منطقة محصورة، مكتوفي الأيدي غير قادرين على تغيير الواقع ، نشاهد الخطأ ولا نستطيع تغييره ، وإذا حاولنا إحداث التغيير لا يُسمح لنا بذلك،جراء الضغوطات التي تمارس علينا .

أي برزخ هذا الذي حُبسنا فيه ، بطريقة لم نعد نميز بين “الدولة المدنية “و”الدولة الدينية” ! وما يلفهما من الغموض ، خاصة بعد ثورات الربيع العربي ،التي فتحت باب الجدل حول هذين المفهومين، اللذين باتا يتصدران أهداف هذه الثورات.. وبتنا لا نفرق بين الموازنة والعجز فيها ، وبين المديونية وزيادتها غير المنطقية،بعد أن زادت معها الأعباء على المواطن ، وبين اتساع رقعة الفقر والبطالة ، وبين ارتفاع الأسعار وفرض الضرائب وتأثيرهما على ذوي الدخل المحدود ، بعد أن أصبحت رواتبنا لا تتوافق مع واقع معيشتنا ومستواها المرتفع.

مقالات ذات صلة

اختلطت الامور علينا بطريقة لم نعد معها نعي مفهوم العشائرية التي حاربناها مرات وأيدناها مرات عديدة ، ولم نعد نفرق بين المذاهب والأفكار، وبين أن نكون نوابا للشعب أم على الشعب !.. ولا نعرف ولاءنا هل يكون للدولة أم للحكومات ؟!.. وهل المسؤول يأتي لخدمة الشعب أم لحكم الشعب ، والتحكم في قوته ومصيره ..

والأهم أننا أصبحنا في وقت نعيش في منطقة تفصل بين انتشار الفساد في ظل غياب القرار السياسي على مستوى الدولة للقضاء على الفساد ، ولم نعد نفرق بين محاربة الفساد وتنميته لأننا لم نحاسب الفاسدين ، وتركناهم بطريقة تشجعهم على المزيد ، ونعتنا الصالحين بالسلبية والرجعية والتخلف ، وافتقارهم للجرأة وعدم اقتناص الفرص ، ولم يفعل دور النزاهة والشفافية والمساءلة وتطبيق القوانين للقضاء على المحسوبية والفساد .. وبتنا نقف في منطقة لا تفرق بين منح الثقة للحكومة، وبين إعادة طرح الثقة ببعض أفراد الحكومة لتقصير في الأداء .. بعد أن أصبح المسؤول لا يعي دوره !.. وأصبحنا في منطقة نُلبس الاتهامات والاعتراضات ثوب الديمقراطية؛ لإخفاء عيوب الخلافات الحكومية الداخلية .

ولا ننسى ذلك التمزق بين مشايخنا ، الذين انقسموا في تعريف الشهيد الذي يقدم روحه في سبيل الله ، وفداء للوطن ، بعد رفض ثلة منهم إقامة صلاة الغائب على أرواح شهدائنا .. والأمر لا يقف عند هذا الحد ، بل وصل إلى درجة تقديم صكوك غفران غير مفرقين بين من يحق له الحساب ، وتركنا أمور حياتنا المهمة جانبا، ولهثنا خلف تعريف : هل المكان الذي وقعت به العملية الارهابية في العاصمة التركية في الساعة الاولى من العام الحالي ، هو مطعم ؟ ، أم ملهى ؟ لنتمكن من محاسبة من قضوا على يد الغدر لنترحم عليهم أم نمتنع !. بطريقة تطاولنا وتمادينا فيها على صاحب الحساب ، بعد أن سمحنا لأنفسنا أن نصدر الاحكام المسبقة ، ونكيل الاتهامات ، ونُكفر من نُكفر ، ونَمنح الشهادة لمن نشاء ، ونَحجبها بطريقة سافرة .

لم نعد ندرك كيف كنا ؟ وكيف أصبحنا ؟ .. وبتنا نعيش في منطقة تفصل ، ولا تفصل بين أفكارنا وتصرفاتنا، وبين مبادئنا وواقعنا، ولم نعد نميز بين اسلوبنا ومنهجنا في الحياة ، ولا نميز بين الحق والباطل ، وبين ما هو مطبق على أرض الواقع أو في الخيال .

حتى ننتهي من حالة الوقوف بين البينيين ، ونلتقي مع انفسنا في نقطة التقاء بعيدا عن حياة ” البرزخ ” التي أفقدتنا حالة التمازج ، علينا أن نعود إلى ذاتنا قبل ضياعنا ، لنعرف أين نقف ؟ وإلى أين سنصل ؟!..
Jaradat63@yahoo.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى