فِئرانٌ وَ رِجال!

[review]

في قصة مدينتين التي تجري أحداثها في زمن الثورة الفرنسية يقول تشارلز ديكنز( كانَ أحسَنَ الأزمانِ، وَكَانَ أسوأ الأزمان. كانَ عصرَ الحكمةِ، وكانَ عصرَ الحماقة. كانَ عهدَ الإيمان، وكانَ عهدَ الجحود. كانَ زمنَ النور، وكانَ زمنَ الظلمة. كانَ ربيعَ الأمل، وكانَ شتاءَ القنوط. كانَ أمامَنا كلُّ شيء، ولم يكُن أمامَنا شيء. كنَّا جميعاً ماضين إلى الجنَّةِ مباشرة، وكنَّا جميعاً ماضينَ إلى جهنَّم مباشرة…).

ولأنَّ المُدنَ تَـنأى، والثَورةَ واحدة!،

ولأنَّ دَمَكَ والخُبزَ والعَدالةَ تُنازلُ السُلطَةَ في ميادينِ التَحريرِ العَربيةِ ، فإنَّني أبصمُ بِعَشرِ أصابعي وَقَلَقي عَلى حِكمَةِ وَ بُعدِنَظرِ مَقولةِ ديكنز الثَوريَّة.

مقالات ذات صلة

وأنا هُنا ، لا لأشيرُ إلى مواقِع ِ الضَعفِ والقوَّة في ثورتِنا التي تُناغي عُصفورَ الحبِّ الأحمَر الطالعمِنْ قَفَصِ القهر بَحثَاً عَنْ حقِّهِ المَشروع بملامَسةِ السَماء، وَلا للتأكيد عَلى أنَّ الثورةَ التي خَضَّبت الأرضَ بالدمِّ تُماهي خُشوع صَلاةِ استسقاءِ الحريَّة، ولكنّني هُنا والتاريخُ، كي نُنادي ضَمائرَ فِئرانٍ كانوا رِجالاً، أوْ حَسِبناهم كذلك ذات تزوير!.

****

(فئران ورجال)، ( عناقيد الغَضب)، (اللؤلؤة)، (كوب مِن ذهَب)، ( شقة تورتيلا)،( شرقي عدن)،( أفول القمر)، (معركة سجال)، (شارع السردين المعلّب)،….هي بَعضُ أسماءِ رواياتِجون شتاينبيك، هذا الكاتب الأمريكي والذي وُلِدَ في عامِ 1902 ، وَ حَصلَ عَلى جائزة بولتيزر عَن روايتهِ ( عَناقيد الغَضَب) في عام 1940، وَجائزةِ نوبل للآداب عَنْ رواياتهِ وأعمالهِ العَديدة.

جون شتاينبيك ، وفي جَميعِ أعمالِهِ كانَ الناطقَ الرسميَّ لآمالِ وآلامِ الإنسانِ الباحث أبداً عَن رغيفٍ ومَأوى وَكَرامةٍ وإستِقرار،وَكانَت مُوشَّاةً جميعها بِخيوطِ الثَورةِ الذهبيةعلى (اللاإنسانيةِ) التي يُمارسُهَا الطُغيانُ عِندَما يَكونُ سيِّداً مُطاعَاً، وَمِنْ أجلِ هَذا سَكنَت أعمالُهُ قلوبَ القراءِ، وَقوبِلَت بِشَعبيةٍ عارمة بَعدَ أنْ تُرجِمَت إلى أكثر مِنْ ثلاثينَ لغة.

جون شتاينبيك كَانَ إنساناً وَرَجُلاً وَضميراً، لَكنَّهُ فَجعَ العالَمَ عِندَما تَحوَّلَ إلى فأرٍ يُمارسُ الرذيلةَ في أوكَارِ الموقفِ (الأمريكي الرَسمي) في عدوانِهِ الغاشِم عَلى فيتنام، هذا العدوانِ الذي يرفضُهُ أحرارُ العالمِ وَمُثقفوهُ وَ مواطنوهُ وَمساحاتُهُ الخَضراء وَشمسُهُ الساطعةَ بالحَقِّ .

فُجِعَ العالم بشتاينيك إذ تَنَكَّرَ لَجميع الأحلامِ التي ظَلَّ يُنادي بِها وَيُرسِلهَا كَهَدايا مِنْ فَرَحٍ وَأملٍ إلى قلوبِ الشُرفاء.

تَرَجَّلَ هذا( الضمير) عَن حصان رَأيهِ الحُر، ليركبَ آلةَ الدمارِ الإنساني، مُغنيَّاً للجريمةِ وراقِصَاً فوقَ الجُثث.

فُجِعَ العالم بشتاينيك لوهلة، ولكنَّهُتجاوزهُ بَعدَ أن سَلبهُ كلَّ نياشينهِ، ثم ألقى بهِ دونَ هَوادةٍ في مزبَلةِ التاريخِ.

****

وَلأنَّني – ومنذُ انتِشارِ نسائِمِ الحُريَّة -، مُصابةٌ بِحالةٍ مِنَ الفِقدان، وَمشغولةٌ بتشييعِ جنائِز ضمائر عَددٍ ليسَ بقليلممن اعتبرتهم ndash; عَنْ غَفلةٍ وَسوءِ قِراءةٍ ndash; رموزاً للأدبِ والفَنِّ والفِكرِ الإنسانيِّ العربي، فإنَّني أوجِهُ لَهُم ..خَيبتي وغثائي.

أيُّها الفِئران:

أيَّاً كانَ الثَمَنُ، فَمِن حقِّنا أنْ نَبحَثَ عَنْحقيقةٍ نُؤمِنُ بها وَ نُناضلُ مِنْ أجلِهَا ، .. وَمِنْ حقِّنا أنْ نَرفض جَميعَ وسائلِ التركيعِ والتَدجينِ الروحِي والفِكري، ومِنْ حقِّ ضمائرنا أنْ تحلمَ بعالمٍ منزوع الجوع;جوع طفل لرغيف الخبزِ أو جوع رجلٍ لحفنةٍ من الكَرامة، وَمن حقِّ إنسانيتنا أن تتخلصَ منَ الهُتافاتِ (المثيرةِ للإقياء) المُمتدّة على مساحةِ الذلِّ العربي.

هَذهِ حقوقنا ما دامَ العالمُ غاباً بِلا عدالة، أمّا واجبكم، فهوَ أن تُمسكوا بِكفوفِ أحلامنا اليُمنى وتقودوها في دروبِ النَصر.

أيُّها الفِئران:

عِندَما يُصابُ العالمُ بالضَباب، ويُهرولُ المُهرولون في جميعِ الإتِّجاهات دونَ بوصلة، بعضُهُم إلى حَتفهِ وبعضهم إلىحَتفِ غيرهِ ، وحدهُ الأديب الفنّان يَقف مكانهُ مُنادياً بأعلى صوتهِ بكلمةِ (رؤيا) ، وحدهُ مَن ينشد نشيد أل ( لا) ، وحدهُ مَن يقيل عثرة الساقطين عَن غفلةٍ، وَوَحده مَن يرسم وحدة الإتجاه .

ذَلكَ أنَّ الأدب ليسَ أبجدية وموسيقى فَحسب;بَل هو (ثورة) عَلى ثقافةِ القَطيع وَقَطيعِ الثقافة. والأديب ثائر أزلي عَلى فَوضى الظلم، وعَليهِ أن يُرتِّبَ أوزانَ العَدلِ كما يُرتِّب أوزانَ القصيدة، أن يُشكِلَ أبجديةَ الصمودِ، وأن يُدوزنَ نغمات الجماهير الناطقة أبداً بالحريَّة.

أيُّها الفِئران:

أنتُمُ الذينَ قايضتم (كلماتكم) أو (صمت كلماتكم) – والصمتُ جريمة عندما يكون متواطئاً مَع القَتلةِ والسفَّاحين ndash; بِمنصبٍ شرفي في بلاطِ اللاحريّة .

أنتُم الذين فقدتم القدرة على ترتيبِ هذا الكون بإناملِ وأبجديةِ الفنَّان، لتقفوا كَتفاً إلى كَتفٍ بِجانبِ عروش الديكتاتوريات المتهالكة.

إليكم اليوم ، وَغَداً :

مَنظر ذيولكم يُفتِّتُ كَبدي، لأنَّني كنتُ أعوِّلُ عليكم كإزميلِ إرادةٍ يَعملُ في صخرِ اليأس، وَكَقلبٍ نابِضٍ بِأشواقِالتحرير، وكصوتِ مَنْ لا صوتَ لَهُ.

منظرُ ذيولكم يُفتِّتُ كَبدي، ولكنَّني عَلى يقينٍ راسِخ بأنَّ التاريخَ سَيُلقي بِكُم دونَ هَوادةٍ في ذاتِ المِزبلةِ التي سبقَكُم إليها شتايتينك كَفئرانٍ كانوا رِجالاً أو أنَّنا حَسِبناهم كَذلك!.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى