بائع الكعك

[review]
دخان ُ السيجارة يتصاعد ُ فى حلقات ٍ دائريه متلاحقة ٍ فى سماء الغرفه , تصدرُ من انفى حلقة ً صغيره ثم تكبر ُ مبتعدة ً عنى لتنفجرَ فى سمـــــاء

الغرفة وتلحق بها اخرى فى سلسلة ٍ لذ لى مراقبتها , تصعد تارة هادئة

متموجةً وطوراً يندفعُ سهم سريع ُ من الدخان خلالها .. وثمة مذياع يبكى

باغنية ٍ هادئة ٍ حزينة ٍ تحملنى بين نغماتها ..عبر حلقات الدخان وعبر بحر

مقالات ذات صلة

الصمت الى الماضى الى ساحة المهد فى مدينة بيت لحم .

شريطُ من الذكريات يمر فى مخيلتى فارى وجه نهيل ..ذلك الوجه الاسمر

الناعم والعيون العسليّه الدافئه الساهمة دوما ً وقصة حب طاهرةٍ معها ,ثم

وجه ُ وليد ذلك الصديق المرح الذى كان يسكبُ دائماً فوق جراحى بلســــم

الامل والمحبه ليدفع فى اعماقى روح الصراع نحو الافضل .. والف الف

وجه ووجه .. ومن خلال تدافق الصور وتوافدها تبرز ُ صورته تنمو وتكبر

اكبر من غيرها ليبقى اقوى من النسيان والموت .

كان يثف ُ دائما ً امام مكتبة( ابو تيسير الخليلى ) فى ثغر شارع ( بولس السادس) المطل ُ والملتحمُ فى ساحة المهد..عيناه متعلقتان بالفضاء المنبسطِ

امامه ُ على التلال والوهاد الشرقيّه ..يعتمرُ الكوفيه َ ذات اللون الاخضر الباهت والتى ام ارها يوما ً تغيرت من مكانها وكانهُ ينام ُ ويصحو بها ..يضعُ

امامهُ طرحةً ً خشبية َ يتكدسُ فوقها اطارات ُ من الكعك الساخن ..كان رجلا ً

نحيف القامة مدُيدها عظام ُ وجهه بارزةُ فى ضعف ٍ تلمح فيه ظلال الفقر ِوالفاقة..كنت ُ المحه ُ فى موقفة دائما ً واقفا ً فى صمتٍ كصمت شحرى الميلاد العجوز الساكنة ُ منذ امد بعيد امام مخفر مدينة بيت لحم فى ساحة المهد.

تعودتُ , ان اتناول َ منهُ كعكةً ساخنة ً صباح كل يوم وانا فى طريقى الى

سوق الخضره ..او الى شارع (راس افطيس) لبعض اعمالى ..حتى اصبح

مع الوقت لى مظهراً ً من مظاهر المدينة كشجرة الميلاد او منظر الاجانب

فى توافدهم اليومى لكنيسة المهد . وكم طاب لى الوقوف قرب صيدلية (حنظل ) اراقب شارع ( بولس السادس ) فى تعرجه الضيق تتموج فيه مواكب الناس

وارى باب المهد … واراه ايضاً ألمح كوفيتهُ الخضراء الباهته فادرك ُ على التو ان بعضا ً من الكعك لا يزال موجودا ً على طرحته ِ وان بائع الكعك لا

يزال يحدقُ فى الافق الشرقى فى كل سهوم .

ومن خلال التعود اليومى عليه اصبحت صديقاً له ُ..ولعلنى تجاسرتُ اكثر َ من مرة ٍ فافتعلت ُ عدم توفر النقود معى .. فلم يحفل ْ كثيراً انما قال لى ( على

حسابك الكعك كله)..شعرت ُ بعدها بالطبية والبساطة ِ معهُ .. واصبح َ وجهاً

احبُ ان اراه ُ كل يوم ..وجها ً اُحدُثُ اصحابى واحبابى عنه .مما اثار َ دهشة

البعض ِ وتعجبهم لان بيت لحم كانت مدينة ً حافلة نوعاً بالهو وحياة الشباب

وكلُ له صديقة ُ ..اما انا فعلاقةُ مع بائع كعك مسكين لامر ُ يثير الدهشة فى

نظرهم واكثرَ من سؤال ؟؟؟

كنت قد وفدتُ الى مدينة (بيت لحم ) منذ سنة ٍ موظفا ً فى احد فنادقها …وهى

مدينةُ صغيرة ُ بسيطةُ ينام ُ فى اعماقها اكبر ُ تاريخ ونبع ُ دين سماوى …لا تزالُ قديمة ً نوعا ً ما فى انمطة البناء وفى بعض شوارعها واقواسها الحجريه

..ثم كانت علاقتى مع نهيل احدى الروابط التى جذبتنى اليها الى درجة كبيره

احببتُ فيها البسطاء لصدق ايمانهم ..ولم امارس الكراهية لاحد ففى هذه

المدينة يجب ان تموت ُ الكراهيه …احببتُ بيت لحم الى درجة محبة المؤمنين

بها وبدأت احس ُ انها مدينتى ولا غير سواها ..ووددتُ احيانا لو انشطرُ الى

نصفين امشى الىاخر شارع {راس افطيس) بنصف ..بالنصف الاخر الـــى

اخر شارع (بولس السادس ) ثم اكتمل هناك عند (سينما الامل) .

حدثت ُ مرة بائع الكعك عن حبى لها ..فقال لى (( هل انت من هنا ) قلت (لا)قال ((اذن لن تحبها الى درجة تنسى بعدها حبك للاصل الذى عشت به وانحدرت َمنه )) قلت لماذا (( لشىء بسيط لاننى حتى هذه الحظه لم انــس

مدينتى الاولى ..يافا .. لقد خرجت منها بذكرى مولمة لقد فقدت كل شىء..

امى وابى وكل ما كان لى من مال وجاه ..ولم احمل معى سوى هذه الكوفيّة

التى تراها على رأسى و لي املُ بالعودة ….

لم يكن حزيناً ذلك الحزن القاتل ..ولم يكن سعيداً تلك السعادة ةالتى تلمح ُظلالها على وجوه السعداء ..بل كان يؤمن ُ بغرابةٍ تامه ان لليوم وجهان ..

صباحه ُ ومسائه ُ .. ولعل هذه فلسفته التى لخصها لى ذات يوم ((بانــــه

ينتظرُ فجر نهاره بعد ان طال ليله ).

ذات يوم ٍ لمحتُ الى جانبه ابنه ..وهو طفلُ لم يتجاوز السابعة من عمـره

. كان يرتعدُ من البرد تحت اسماله الباليه ..تعلقت عيناه فى يدى وانا ابتاع

كعكتى اليوميه .. وكأنه يحصى فى ذهنه ِ كم تبقى من كعكات والده لكــى

يعود َ الى البيت هرباً من برد الصباح . اشفقت ُ عليّه وسألته عن اسمــــه

قال محمد ,

ـــ اتذهب الى المدرسه يا محمد .

ـــنعم ,,قالها بصوت خافت ٍ مرتجف .

ولا ادرى لماذا شعرت ُ بالحزن العميق عليه ..احساس ُ عنيف دفعنـــى

للفندق ثم عدتُ اليه ببعض الملابس والتى حاول والده ردها بعنف ..لكن محمد كان قد امسكها بشى ء من الفرح قلت ُ لوالده (( انا لست محسنـاً

انما هديه لمحمد .

أعرف اننى طعنتُ الوالد َ بما فعلت ْ لكننى شعرت ُ بالدف ِ وانا ارى الطفل

يبتسم .. ومن تلك الحادثة ِ تعلق الطفل ُ بى واصبحنا اصدقاء .

كان الاصدقاءُ في (بيت لحم ) يسخرون من صداقتى معه ُ .. ولكم كانت دهشتهم ُ عندما علموا بزياتى له فى مخيم الدهيشه عندما ضربتة سيارة ُ

ذات يوم والزمته الفراش …وعندما حدثت (نهيل) عن تلك الزياره .. تبسمت

ولكن فى غرابة . وطوال مدة مرضه ..كان ابنه الاكبر يبيع الكعك فترة

بعد الظهر بعد انتهاء دوام المدرسه .

وقد علمت ُ بان ام محمد كانت تقوم ُ بعجن الكعك وترسله الى فرنٍ قريب

ويبقى محمد بجانيه اخيه يصرخُ ((كعك .. كعك .. ) حتى يعودُ بثمنه كاملا

الى البيت .

وعندما عاد ابو محمد بعد الشفاء لاحظت ُ انه استقدم كرسياً لالم فى ساقـــه

لله كم كان هادئا ً فى المه ..فى غضبه .. وتسامحه على السائق الذى ضربه,

كنتُ فى ذلك الوقت ادرس ُ فى جامعة (دمشق )وعندما ارتحلت عن بيت لحم في ايار ذلك العام .. كان اول من ودعت ُ وجه نهيل الغارق بالدموع ..

ووجه (وليد )الغارق بالدعاء ..واذكر ُ كم شدُ على يدى (ابو محمد) بكل حبٍ

وطيبة ..وهو يدعو لى بالنجاح والعودة السالمة .وتعلق بى محمدُ وهو يريدُ

هدية ً من الشام .

ودّعت ُ بيت لحم َ واشعة ُ الشمس ِ الصيفيه تزرع ُ فى الاعماق ِ اسياطاً

تجلدنُى بالحزن .. كنت ُ اشعرُ بشعور ِ حاد من الحزن والغربه .. ولعــــــل

هذا الشعور الحقيقى للحزن قد تولّد فى اعماقى وقلبى قبيل ارتحالى باسابيع

وكم كنت ُ اودُ لو احمل ُ معى كل َ حجارة بيت لحم واهلها ..شجرة الميلاد

..عيون نهيل العسليه ..وابو محمد . لا ادرى لماذا حزنتُ ذلك اليوم كثيرا

كثيرا ..كان الطريق من بيت لحم الى عمان كـأنه ذراع بيت لحم يلاحقنى

بكل لهفة لكى اعود واعانق الوجوه كلها مرة اخرى …

ومن عمان …نزلت ُ الى جامعة دمشق .

دمشق ٌ اغنية ٌ حب ٍ فى خاطرى منذ زمن ٍ بعيد . .. وعندما دخلتها مساء

ذلك اليوم ..ارتميت ٌ فى احضان شوارعها حتى ساعة ُ متاخرة من الليل …

وكان بيتى الجديد قريبا ً من الجامعه . .. وبدأت الدراسه الجاده .

وبدأت تلوح فى الافق بصورة مفاجئة بوادر القلق السياسى ..لم اكن اهتم ُ

بالسياسه ..فلم اكترث لكل اخبار الجرائد والناس .. لكننى كنت ُ احس ُ بشىٍ

غير عادى يجرى بين الطلبه والناس ..وسرعان ُ ما وقعت الحرب ُ دون ان

احس َ بعنف قدومها ..ومانت مفاجاة لى يوم سمعت ُ دوى المدافع فلب (دمشق

رباه ما جرى ..اهكذا وبكل سرعة . وقرأت على وجوه الطلبة فى الجامعة وفى خوذ الجنود معنى الحرب . ولكنها لم تدم ْ طويلا ..ولعل مأساتنا الحزيرانيه كانت اسرع نهايه من توقعنا الحماسى ُلها ..

وضاعت بيت لحم .. واصبحت مغتربا عنها ..تهتُ فى شوارع الشام كثيرا ..

وفى شوارع عمان ..والسوالٌ يعوى فى داخلى ((ماذا جرى لهم في بيت لحم)

الازدحام ُ المرعب الخانق ُ فى شوارع عمان ..بعد النكسه يوْلدُ فى الاعماق نوعية ً حادة من الحزن والتشرد .

عانيت ُ مع الناس ..اذهلتنى المفاجاة ..بدات ُ اصحو على واقعى ..على عمق

معنى الهزيمة ..ولعلنى ارتحت قليلا لسلامة نهيل ووليد .. غير اننى كنت حزينا ً لافتقادى بيت لحم تلك الارضيّه التى فوقها تولدت محبتى للعالم .

وتخرجت من الجامعة بعد اربع سنوات ..وحصلت ُ على وظيفة فى عمـــان

واصبحتُ مع الايام مواطناً عربياً عاديّاً اسمع ُ الاخبار ..اتذكر ُ واتنهدُ …

وذات يوم وبينما كنت ُ فى زيارة لزميل لى فى مدينة (الزرقاء) فوجئت ُ

بالكوفية الخضراء الباهته تقف امامى فى كبرياء فى موقف للسيارات العامه

لم اصدق ما ارى ..وحين اقتربت ُ من تلك الكوفيه ..وجدته شابا ً يافعا ً .. لم

يعرفنى اول الامر ..لقد كان محمد وسرعان ما تعارفنّا اصبح طويلا يقارب

طول والده طولا .. قلت (( كيف انت كيف الوالد وما الاخبار )

وعمت ُ منهُ الموجع الحزين ..

لقد مات والده ..عندما حدثت الهرب ..هرب من ْ هرب بعد الهزيمة ..رفض

والده الهرب بل اصّر للذهاب الى يافا ..لكّنه عاد مقتولا بعد ان اوصى ابنه

محمد بالمحافظة على كوفيتُه الخضراء ان لم يعد اليهم .. وقال لى محمد لقد

فقدنا كل شىء مرة اخرى ,, البت الصغير ..ووالدى وامى امرة عجوز مرهقة ..وانحدرت من عيونه دمعة عندما شجعته ..

وسمعت صوته يصيح ((كعك ..كعك ..)فادركت انه ُ لم يفقد امله بالحياة ..

والعودة ذات يوم ..الى يافا وبيت لحم بالكوفية الخضراء ,

انتهت

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى