واقعيّة هردبشتيّة / يوسف غيشان

واقعيّة هردبشتيّة

نتغزل كثيراً في الأردن ، لكأنّه حبيبتنا الجميلة التي نعيش معها فترة خطوبة دائمة، فهو الجميلة التي اختصرت النساء جميعا والكائنات بمطلقها .
نتغزّل في خبيزة الأردن وفي القيصوم والشيح و(جريّة الحمامة) .
نتغزل بماعز أرنون وأسماك الهيدان . .نسجد هيبة وتهيبّاً أمام شموخ رم ، ونركع تعبّداً أمام عبقرية البتراء .. وننحني خشوعاً أمام سحر جلعاد وعجلون .
ظبيات وادي السير ، فسيفساء مادبا .. نقسم بالتراب والماء والهواء ، بما خلق وما لم يخلق بعد .. بكلّ شيء ، نعتزّ حتى بالنملة المشاكسة في سهول إربد ، وبالنحلة العاشقة لأشجار جرش .. ولا أخفيكم أنّ الأمر وصل بجنابي إلى التغزّل بمزابل مادبا وخراباتها ..!!
لكننا جميعا ً، لن نصل إلى ربع ما وصل إليه شاعرنا الكبير عرار ، الذي كان يعشق بلا تكلّف ويتغزّل بكلّ عفويّة ، وكانت الحجارة والعيدان اليابسة والوديان المهجورة تتحوّل بين يديه إلى كائنات فسفورية ترقص وتسبح في بحور شعره وأنهار فيضه .
أقرّ وأعترف هنا أننا مارسنا مبالغات كثيرة وتطرّفنا كثيراً حين نفينا صفة محبّة الأردن عن الذي لم يشرب من ماء راحوب ولم يغتسل في حمامات عفرا ، ولم يتلمّظ بطعم خبز الشراك من بين أيادي صبايا المفرق .
ما ذنب المدنيّ الذي يحبّ الأردن مثلنا – وربّما اكثر – ويدافع عن ثراه مثلما ندافع نحن ، لكنه لا يجيد التغزل في لغاليغ مدينته الإسمنتيّة ، ولا يعشق التجوال متبطلاً في الأرياف والصحارى ، لأنّ هذا الموضوع ليس جزءاً من طبيعة حياته ولا من مقاييسه الجمالية ، التي تختلف بالضرورة عن مقاييسنا نحن البدو وأبناء الحراثين.
مواطنون جميعا ً .. فرّقنا التاريخُ وجمّعتنا الجغرافيا .. والمزاودة على الآخرين في محبّة الوطن لا تعني سوى عكسها ، فإنّ أقل الناس فضيلة هم غالباً أكثرهم تحدثاً عن الفضيلة.
إننا جميعاً : فقراء وأغنياء .. بدوّ وزنوج وفلاّحون .. وُلدنا هنا أو هناك .. إننا جميعاً نشترك في ردّ فعل واحد ، فلو خيّرونا بين وطننا الأردن وجنة الخلد ، لوافقنا وقبلنا جنة الخلد وبدّلناها بالوطن .. ولن ننازع انفسنا – حسب ادعاء أحمد شوقي – وسنرضى بالتبديل ولو بنصف جنّة أو ربعها .. ليش الكذب؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى