نرد وحياة

[review]
نرد وحياة *

محمود احمد الشمايله **

العمر قطار سريع ، لا يتوقف عند أحد ، والموت فاغر فاه لا يشبع ، يحوم حولنا ويداعبنا في كل حين، هي الحياة مرة محببة كفنجان قهوة الصباح ، مرة بكل تفاصيلها ، كدواء السعال نشربة علقما على امل أن نحضى بلحظات شفاء من أوجاعنا في وقت اخر.

صباح نيساني جميل ،أسير بملئ قدّمي الى حيث لا أدري ، بعد أن داهمني التقاعد كما العمر، أجدني مشغولا بانفاق الوقت أكثر من اي شيئ اخر،. اتيه في عتمة الزحام المفرط بين أصوات الباعة وضجيج السيارت والوجوه الغائبة خلف فقر وثراء . يبتلعني ذلك المقهى على ناصية الشارع دون سبق اصرار وترصد مني ، هكذا وبكل سذاجة أختبئ وراء صمتي المدقع وأجلس على مقعد عتيق كما كل شيئ هنا ، الطاولات الخشبية ، النوافذ، اباريق الشاي والقهوة ، الاراجيل وحتى صاحب المقهى ، رجل طاعن في السن الى حد الساعة البندولية المعلقة فوق رأسة.

مقالات ذات صلة

همهمات مبهمة تداخلت مع بعضها واختلطت بدخان الاراجيل والسجائر المتصاعد من الافواه جعلت فضاء المكان معتما قاتما معتقا برائحة المعسل والقهوة وروائح أخرى ، فلم أسمع سوى قرع أحجار النرد وهي تتدحرج على المساحة المتاحه داخل طاولة الزهر هناك في الزاوية الخلفيه.

ثمة شيئ في داخلي جعلني استهوي المكان ، لا ادري أن كان سحر الأمكنة الجديده ام حميميتها ، شعرت بنشوة جعلتني أبصق في وجه الساعة البندولية التي كانت تصرخ في وجهي كلما نظرت اليها ، وكأنها حكيم طاعن في السن ،فلم تعد تهمني تلك الصرخات.

رجل مسن بائس ،رث الثياب ، حفر الزمن على وجنتيه اخاديد وأودية ، دخل المقهى توا وهو يتأبط طاولة الزهر ويجوب بعينيه المكان ، وكأنه يبحث عن شخص ما ، حتى تقابلت نظراتنا فاشار بيده الى طاولة الزهر وانا اومأت له موافقا لعلي احظى بمفارقة جديدة لطقس حياة التقاعد. فلا شك انه من المتقاعدين القدامى .

بنفس وتيرة صمتي كان هو ، فتح طاولة الزهر ، وكأنه فتح باب الحياة أمام عيني، وراح يرتب أحجار اللعب بمهارة فائقة .

كما الحياة ، لعبة السباق مع الزمن عليك أن تنقل أحجارك من نقطة البداية الى النهاية بأقل عدد ممكن من الرميات ، فتكون تلك هي أحلامك الكبيرة تجتهد في حياتك وترسم طريقك وقد تقضي على أحلام الاخرين من أجلها ، وفي حقيقة الامر أنت لن تتلقى سوى مشيئة الرب .

كان الرجل مشغولا بترتيب الأحجار وانا كنت مشغولا باسترجاع كل ما أعرفه عن هذه اللعبة ، أربعة وعشرون مثلثا ، كما لو أنها أربعة وعشرون ساعة ، توزعت على أربعة مساحات مختلفة وتناوبت فيما بينها أسود أ، أبيض ، أسود، أبيض، ليل ، نهار ، quot;وكل في فلك يسبحونquot;

اي الاحجار تختار ؟

جاء سؤاله مباغتا ، جعلني أشعر بخيبة كبيرة ، الا يجب أن نتعارف اولا ، ام سيتركها لظروف قادمة وكأنه يعلم انني سأعود مرة أخرى .

ثلاثون قطعة مستديرة تمثل ايام شهر ما ، نصفها بيضاء والنصف الاخر سوداء.

-حسنا أختر أنت

– سأختار اللون الاسود

هكذا وبكل ثقة اختار اللون الاسود ، اذن سيختار الجزء المظلم من ليالي الشهر المظلمة لعله يسعى الى ارهابي ، الم تكن جيوش التتار ترتدي قبعات لها قرون لاخافة اعدائهم ؟

أرمي . بنج وجهار، سي ودو ، دو وشيش … دو يك …..

توالت الرميات الواحدة تلوى الأخرى ، ونحن منشغلون في نقل الاحجار من البداية الى النهاية اختلطت احجار الليل وأحجار النهار تقاطعت وتوازت ثم ابتعدت وكل منا يحاول أن يحتجز حجرا لخصمه . اليس غريبا أن تكون نهايتي هي نقطة انطلاقة؟!

صوت أحجار النرد بطاقة دعوى يفهما الجميع ، نصف دائرة بشرية التفت حول الرجل المسن أربعة أو ربما خمسة رجال وكأنها جوقة موسيقية ورجل قميئ جلس على يميني، كانت أحجار النرد تدور فوق الزخارف الفارسية محدثة صوت حاد والعيون تدور معها .

صاح أحدهم دش ارتسمت ابتسامة عريضة على شفتي الرجل المسن وكنت اتسائل كم دش حصل عليه هذا الرجل في حياته فابتسمت انا ايضا.

من الواضح جدا أن هذه الجوقة تساند الرجل المسن ، باستثناء الرجل القميئ الذي لم يسعفه المكان فاضطر الى مساندتي . فبدأ بتلقيني ماذا أفعل، ونصّب نفسه مسؤولا عن حياتي حرك هذا الحجر ، ضع هذا هنا ،لا تفعل كذا ، بل أفعل كذا ..وهكذا ولا أدري ان كانت الجوقة ستفرح لفوز الرجل المسن أم لخسارتي.

الضجيج في داخلي يعلو ، كيف لهذا القميئ أن يتدخل في حياتي ويقرر نيابة عني ما يناسبني ام لا ، و يعتبرني اطارا يضع فيه الصورة التي تناسبه هـــــو فشعرت بامتعاض شديد جعلني افقد حماستي .

أكتفي برمي أحجار النرد وتنفيذ رغبات القميئ ، وأطيل النظر في وجه الرجل المسن ، بتلقائية فطرية، تنعكس الارقام على وجه ، فكلما ابتسم عرفت أن الرجل القميئ سوف يغضب اليست سعادتنا تبنى على تعاسة الاخرين ؟!

جهار ، سي . شيش ، بنج ، يوم لك ويوم عليك ….

تدور الاحجار ، والرجل القميئ ما زال يتمادى …

الضجيج في داخلي يتعاظم …

يرمي الرجل المسن حجري النرد.

(بنج ، ويك) ،خمسة ، و واحد، انه قرار صعب ،عليك بالمجازفه قال أحدهم .

سوف يجازف هذا الرجل من أجل أن يحافظ على ما أكتسبه في حياته أو ربما سيفكر في تحقيق مكاسب مستقبليه ، ولكن قبل هذا وذاك عليه أن يتجاوز أزمته أولا.

يضع الرجل المسن حجرا أسود في الخانة الاولى ويعرض نفسه لخطر قد يؤدي الى خسارته ويعتمد في ذلك على سوء حظي .( شيش و جهار)6 ، 4 سوف تكون المسمار الاخير في نعش هذه اللعبة .

أرمي حجري النرد ، الأول يقف على ستة ، والاخر يدور ويدور ويدور كما الحياة …. ، أنحنت الظهور الى مسافة قريبة من الطاولة والعيون تدور مع الحجر.

صاح أحدهم ( الله يلعن أخت الزهر) واخر ضرب بكفه على ركبته متحسرا ، واسندوا ظهورهم الى المقاعد وعدلوا من جلستهم وكأنهم فقدوا الأمل في الحياة .

هذه المرة يتمادى الرجل القميئ ويحمل حجري ويضعه فوق الحجر الأسود على خانة الواحد ، ويصدر قراره بأن اللعبه قد انتهت ، وانا كنت اتسائل لماذا يجب على احدنا أن يفوز الا يمكن ان نفوز معا ام هذه هي الحياة ؟!….

هذه فرصتي لن أسمح لهذ القميئ أن يتدخل في حياتي مرة أخرى، بكل هدوء وثقة اعيد الحجر الذي حركه القميئ الى مكانه ، واترك الحجر الاسود حرا طليقا ، واحرك حجرا اخر ،واضرب رغبات القميئ بحذائي ، يحتج الرجل القميئ ، فتدافع عني الجوقه كاملة ، تقذفه بكلمات بذيئة ، فتهب رياح الغضب وتطفئ سراج عقله ، يغادر المكان وهو يتمتم بكلمات لا أفهمها …

تنتهي اللعبة بفوز الجميع وخسارة الرجل القميئ.

السعادة تعرف طريقها الى وجوه الجوقه ، وأنا لا أقل عنهم كذلك ، فهذه المرة خسرت بمحض أرادتي ، كما كنت أخسر بأرادة الاخرين ،

خرجت من المقهى الى الشارع العام ، والغيوم الحبلى تتكاثف فوق المدينة ، يبتلعني الزحام فاسير عبر الارصفة المزدحمة بسرعة ، فلا شك انها ستمطر بعد قليل .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى