معاذ.. طفل انتشلته موهبة الرسم من أرصفة الشوارع

سواليف – على مرمى حجر من جامعة القاهرة، غربي العاصمة المصرية، يجلس صغير ضئيل الحجم، ممسكا أوراقا بيضاء وقلم رصاص، يخط رسوما يستدر بها اهتمام المارة.

يحاول الطفل معاذ شعبان (9 أعوام) استغلال موهبته في الرسم لجني جنيهات قليلة تكفي مطالب حياته البسيطة وتعيذه من شر مصير أطفال الشوارع الذين يشهدهم في أماكن قريبة يتيهون في الطرقات ويدمنون أسوأ أنواع المخدرات.

بين ثنايا درجات السلم الرخامي لمحطة مترو الأنفاق القريبة من الجامعة الحكومية الأقدم، يبدأ معاذ شعبان (9 أعوام) رحلته اليومية لكسب الرزق ممسكا بأدواته مستغرقا في التفكير حتى ينتهي إلى صورة.

ينتظر بصمت حتى يأتيه من يشتري لوحته البريئة، ويهوّن الصبر عليه وقت قبوعه بين أقدام المارة الصاعدين الدرج والهابطين، الذين يدهسه بعضهم أحيانا دون قصد.

عبارات الثناء والاستحسان يلقيها المارة من الطلاب وغيرهم كانت بوابة لوصول الطفل الرسام إلى صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بمصر، فابتسم الحظ له واتجهت الأضواء إلى حلمه الذي يراود طفولته المبعثرة بجوار جدته المنشغلة دوما في بيع المناديل الورقية لرواد المترو.

منذ قرابة 4 أشهر نشرت بعض فتيات الجامعة تدوينات عبر صفحاتهن بموقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” تطلبن مساعدة الطفل معاذ، وأرفقن لقطات لبعض الصور التي رسمها الصغير، ليعقب ذلك إعلان من الفنان التشكيلي، علي الراوي، عن تبنيه لحالة الصغير ومساعدته على تنمية موهبته.

بصوت خافت ولسان يتلعثم في الكلام يقول معاذ لـ “الأناضول” إنه يحلم بأن يلتحق بكلية الفنون الجميلة حتى يكون رسامًا عالميًا، يشارك بلوحاته في أكبر المعارض.

ويكتسي صوته جدية وهو يؤكد أن حلمه يكبر أمام عينيه يوميا، فمع كل يد تقلب رسوماته بإعجاب يتحقق جزء مما يريد ويقترب من حلمه درجة، بعد أن شارك في معرض للرسوم بدعم فنان تشكيلي تبنى موهبته “مؤقتا”.

موهبة معاذ الفنية لا تشغله عن مواصلة تعليمه فقد أنهى عامه الدراسي الثالث بالمرحلة الابتدائية، وينتظر الانتقال إلى الصف الدراسي الرابع في سبتمبر/ أيلول المقبل.

حكاية معاذ تحمل في ثناياها تفاصيل درامية ربما أكثر من احتراف الرسم يظهر ذلك فيما ترويه جدته فايزة سعيد .

في قرية “صفط اللبن” إحدى قرى محافظة الجيزة (غرب القاهرة) يقطن معاذ مع جدته في وحدة سكنية بأحد العقارات البسيطة، تضم غرفتين، تتبعثر فيها أوراقه الصغيرة، وبعض رسوماته القديمة.

أثاث متهالك مغطى بقطع قماش بالية، تعلوها علب المناديل المعطرة التي تتخذها جدته سبيلا لكسب الرزق، ونور خافت بحجرة، فيما الأخرى مظلمة لعطل في الإضاءة قالا إنهما تعودا عليه.

بعد انتشار صيت معاذ بين طلاب الجامعة، تحول ولعه بالرسم من مجرد هواية طفل يلهو لتمضية الوقت حتى تنتهي جدته من بيع ما لديها من مناديل، إلى حرفة يومية تدر عائدا إضافيا للأسرة الفقيرة فهو الوحيد بين إخوته الذي امتلك الموهبة.

لم يكن الفقر أكبر مشكلات الرسام الصغير الوحيدة بل النشأة داخل أسرة مشتتة كانت أشد وطأة وضررا، حيث انتقل معاذ للعيش مع جدته لأمه منذ صغره بعد أن انفصل والداه، الأم لم تعبأ بمصيره وإخوته الثلاثة، وتزوجت وأنجبت، والأب تزوج هو الآخر وانقطع تواصله عن أولاده من زوجته الأولى.

في حديثها ” تكشف الجدة عن انقطاع التواصل منذ فترة ما بين معاذ وعلي الراوي الفنان التشكيلي الذي أعلن في وسائل الإعلام عن تبنيه لموهبته.

وأوضحت أن المبالغ المالية التي كان يتقاضاها حفيدها من حين إلى آخر كانت تساعدهم على مواجهة الظروف الحياتية لكنها انقطعت في الآونة الأخيرة بعد أن حصل على عدة دفعات من الأموال تتراوح ما بين 100 جنيه (6 دولارات أمريكية)، و300 جنيه (18 دولارا).

لكل منا مسؤولياته ومشكلاته الخاصة، هكذا يفسّر الراوي سبب انقطاعة عن الصبي، مشيرا إلى أن ظروفًا خاصة بعمله وتعثّر أحواله المادية في الوقت الحالي كانت سببا رئيسيا في الانقطاع، لافتا إلى أن آخر لقاء جمعه بمعاذ قبل عيد الفطر (25 حزيران الماضي) بأيام قليلة.

ويقول الراوي : إن بداية معرفته بمعاذ جاءت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى الفور قرر مساعدته وانتشاله من الشارع؛ لأنه لمح في لوحاته بداية الطريق إلى موهبة حقيقية ربما تفضي بعد سنوات ليست بالكثيرة إلى فنان حقيقي تغمره أضواء الشهرة.

أيام من البحث قضاها علي الراوي ليجد الطفل معاذ، ووعده بتعليمه وتبني موهبته وخصص له جانبا في معرضه بالمهندسين (غربي القاهرة) لتظهر أعماله للجمهور الذي تفاعل معها ولاقت رواجا كبيرا بين الزبائن، وفق روايته.

ويشير الراوي إلى أن كل اللوحات التي بيعت لصالح معاذ أخذ مقابلها، وأموال هذه اللوحات موثقة من المشترين والتي لم تزد قيمتها جميعا على 3000 جنيه (نحو 180 دولارا) أخذها الصبي على دفعات، ولا تزال بعض لوحات الطفل الصغير موجودة بمقر المعرض.

رغم انقطاع التواصل حاليا بين معاذ والراوي، لم تنفصم العرى بين الطفل وأصدقائه من طلاب جامعة القاهرة، الذين لا يزالون زبائنه الدائمين، فيؤكد أنه دائم التواصل معهم ويستمع لنصائحهم، وأهمها ألا يعود إلى أرصفة الشوارع وأن ينمي موهبته، وأن يهتم بدراسته حتى التحاقه بكلية الفنون الجميلة، التي وصفها بالحلم الأكبر.

في مصر تظهر من حين لآخر مبادرات لتبني الموهوبين في مختلف المجالات وخاصة في المجالات الفنية منها ما يكون صادقا، ومنها وفقا لتقارير إعلامية محلية وسيلة للنصب على هؤلاء من قبل شخصيات أو منظمات غير حكومية لتلقي تبرعات دون توجيهها إلى مكانها الصحيح.

عبد الوهاب شعبان، صاحب مبادرة “تنمية قدرات الموهوبين بمدينة أطفيح بالجيزة” يقول إن “مصر مليئة بالموهوبين لكن للأسف كثير من المبادرات التي تظهر للإعلام لتبني موهبة ناشئة غالبا ما يكون هدفها الاستغلال سواء في الدعاية لصاحب المبادرة أو الاستفادة المادية من أعمال هذه المواهب الشابة بدلا من دعمها”.

ويضيف شعبان: “لا توجد ضمانة قانونية يمكنها حماية الصغار من عمليات النصب والاستغلال سوى التعامل مع المؤسسات الحكومية التي تتبنى هذه المواهب”.

يحلم الفنان الصغير معاذ لنفسه وأطفاله المتخيلين مستقبلا بغد لا يحمل ما كابده من آلام، ربما هو لا يعرف الشاعر المكسيكي الكبير ميغيل مالذوناذو، لكن أحلامه بالتأكيد لا تتوقف كما يصف مالذوناذو المهمشين الطامحين.

الاناضول

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى