كربلاء واخواتها (3) / عالية الشيشاني

كربلاء واخواتها
(3)
درب الآلام

في المقال السابق توقفنا عند لحظة دهشة ألمّت بالكربلائيين عندما حلقت فوق البيوت والاحياء بالقرب من الروضتين طائرة هليوكوبتر تطلق نداءا تحذيريا :-
يا اهالي كوربولاء ،، القوا بأسلحتكم ، اخرجوا من المدينه .
لم يكن لدى الاهالي وقت للبحث عن سبب اللهجة الغريبة التي سمعوها ، فقد تسارعت الاحداث بشكل مطرد ،ومن الآن وحتى نهاية الحكاية سيكون المؤلف ( او صاحبنا كما يسمي نفسه) الشخصية المحورية في الكثير من المشاهد اللاحقة .
في الحقيقه قد يكون هذا الجزء من المقال هو الاكثر ايلاما للنفس ، لم يكن من السهل علي استعراضه وتلخيصه لما يحويه من وصف لمشاهد ترويع الاهالي وتفرق الاسر وسقوط المئات قتلى ومشاهد الجوع والظمأ والاعدامات . تتقاطع حكايات (صاحبنا) مع حكايات الصبية والشيوخ والنساء الثكالى ، الجميع يفرون بكل الاتجهات كالفراش المبثوث هربا من قصف الطائرات او مدافع الدبابات ، اقول ان مساحة الالم كبيره في هذا الجزء ولكنها مشاهد دخلت في خط الزمن ولا بد من عرضها كما هي .
امام منزله وقف صاحبنا يراقب الافق عندما تراءت له افواج بشريه رجالا ونساءا واطفالا وشيوخا يتراكضون باتجاه المدينة والبساتين هربا من مناطقهم في احياء البعث والعامل والعسكري والعروبة ، شاهد امرأة تلطم خديها وامامها رجل يصرخ ( الحرس الجمهوري دخل المدينة ، الحرس الجمهوري هدم بيوتنا ، الحرس الجمهوري وراءنا اهربوا اهربوا ) ، بيانات الثوره من خلال سماعات الروضه تلهب شعور الجماهير للقتال والمقاومه .
ما ظنه الناس منطقة آمنة تهاوت امام الحرس الجمهوري فانسحب الثوار الى البيوت الواقعة خلفها وقاتلوا الحرس الجمهوري من بيت الى بيت ، كانت البيوت تتساقط من جراء القصف.
يسهب صاحبنا في بث مشاعره المضطربة في تلك اللحظات الرهيبه ، فالكل يتخبط لا يدري ما هو القرار الصائب ، البقاء في البيوت ام الفرار نحو مناطق ظنوا انها اكثر امنا .
وانا اقرأ كلماته تراءت لي تلك المشاهد الدرامية التي نراها على الشاشه ،عندما يصنع المخرج مشهد معركة بدون مرافقة الموسيقى التصويريه ، وبأسلوب التصوير البطىء ، فالصمت يجعلك تلتقط المشاهد بشكل افضل ومن زوايا اكثر دقه وتضمن ان لا تضيع عليك أي من التفاصيل المهمه، يبدو ان صاحبنا قد دخل الى قلب تلك المشاهد الواقعية ، ينقل لنا صورة المنازل المجاورة وقد تساقطت كأوراق الخريف ، والعائلات بدت مثل صيصان محصورة في جره ، وصوت داخل رأسه يصرخ : مُت ما شاء لهم ان تموت ، وعش قليلا لترى غيرك يموت . يركض الى الباب الداخلي لمنزله ثم يعود الى عائلته يوصيهم ان يظلوا قرب زوايا الجدران ، وصراخات الاطفال لا تنقطع .
تطوع احد مالكي شاحنه بايصال العائلات الى جهات اكثر امنا ، لم يكن هناك متسع لا لبطانيه ولا لزجاجة ماء ، فقط بشر مكدسون في صندوق الشاحنه وقوفا ، وعندما امتلأت الشاحنة عن آخرها ، وجد صاحبنا نفسه وأخاه على الارض ، لم يتبق لهما متسع ، حاول ان يهدأ من بكاء زوجته، لوّح لها بيده قائلا : سألحقكم ، وهو لا يدري اصلا الى اين هم ذاهبون،آخر ما التقطت عيناه من مشهد الشاحنه وهي تبتعد ، صورة امراة كبيرة في السن ترفع ابنته الصغيرة عاليا بيديها كي لا تختنق من زحام الاجساد المتراصه .
ابتدأ صاحبنا واخاه والعديد من سكان الاحياء رحلة نزوح كبيره سماها العراقيون ( الشرده) ، قطعوها بلا ماء ولا زاد ولا اغطية في ايام البرد ، وصلوا الى منطقة بها العديد من الحفر الكبيره بين حيي الشهداء وسيف سعد ، جلسا صاحبنا واخاه داخل حفره ، واحتلت مئات العائلات الحفر المجاوره ، لم تعد صرخات البكاء والعويل مشاهد تستوقف احدا ، الحرس الجمهوري وصل الى مقربة منهم واصبحت القذائف تنزل مباشرة على الحفر بين الاطفال والنساء والشيوخ ، خرج من حفرته ومشى فيمن مشوا ليجدوا انفسهم في صحراء تمتد الى الجنوب حتى الحدود السعوديه . ارض مكشوفه وصحراء عاريه وناس بالالاف وما زالت القذائف تنهمر عليهم ، وفي منطقة المقالع كانت هناك عشرات الحفر المستطيلة التي تشبه الخنادق ، اصبحت الملاذ لمئات الاسر للأيام القادمة ، كل حفرة احتلتها عدة عائلات ، منهم من يضمد الجراح بقطع من ملابسه واخرون متحلقون حول جثث من سقط من احبائهم ، وبعد جهد وبحث وجد صاحبنا اخاه الاكبر وعائلته داخل احدى الحفر .
ظلام وبرد وجوع وعقارب صفراء قاتله استثارتها النيران التي اشعلوها طلبا للتدفئة .
بقيت معركة وسط المدينة محيرة ومجهولة من ساكني الحفر ، جاءت اخبار من قادمين جدد للحفر بان الروضتان الحسينيه والعباسيه تضررتا بشكل كبير جراء القصف ، وان الجيش الذي يذبح الكربلائيين هم فرق خاصة تتألف من اليزيديين ، ولغاية تلك الللحظه لم يكن صاحبنا ولا أي من مثقفي كربلاء قد اختلطوا يوما مع اليزيديين ولا يعلمون ان كان هؤلاء يكرهون الشيعة ام لا . اذن كان عبارة يا اهالي كوربولاء هي لهجتهم وهذا الاسراف في الذبح اسرافهم وهذا القتال الشرس المتوحش قتالهم .
لكن كيف تدبر ساكنو الحفر متطلباتهم اليوميه ؟ المشكلة الاكبر كانت في عدم توفر مياه الشرب ، البدو سكان الصحراء وحدهم كانت لديهم براميل طافحة بالمياه العذبة ، وخيامهم كانت مملوءة بما نهبوه وسلبوه من مخازن المدينه ، كان اربعة رجال ضخام مسلحين بالرشاشات يحرسون خيمهم ،وحيواناتهم تسرح بالقرب منهم ترتوي من المياه العذبة كلما عطشت ، في الوقت الذي كانوا فيه يشهرون السلاح في وجه أي من ساكني الحفر اذا ما استنجدوا بهم يطلبون الماء ، لم ترق قلوبهم حتى للامهات اللاتي كن يتوسلن لإرواء اطفالهن ، مما اضطر ساكني الحفر للاستيلاء بالقوة على براميل المياه تحت جنح الظلام ، موهمين البدو انهم مسلحين .

فصل آخر من الفصول المأساوية التي يرويها صاحبنا حدث في المستشفى الحسيني ، تراكمت الجثث في الممرات ، والجرحى بالمئات لا كهرباء ولا ادوية اومستلزمات طبيه ، صرخات وانين المرضى لا تنقطع والممرضون انشغلوا بحفر القبور في حديقتي المستشفى الاماميه والخلفيه والساحات المجاوره .
الليله الرابعة داخل الحفر لم تكن سهله اذ امطرت السماء عليهم واطفأت نيران التدفئة ، انحنت النساء باجسادهن على الاطفال الرضع لحمايتهم ، وفي الصباح علموا ان القتال في المدينة انتهى لصالح الحرس الجمهوري ، واتخذت معظم العائلات على اثره قرارا خطيرا بالعودة الى المدينة ، وكان صاحبنا من ضمن من عادوا ، لكن ما ان وصل واخويه وبقية العائلة الى بيت اخيه في حي سيف سعد حتى اضطروا مرة اخرى للهرب الى العراء بعد تهديدات وصلت بان الحرس الجمهوري سيقصف الحي بالكيماوي بعد قليل .
ركاب الشاحنه :
لكن ماذا حل بعائلة صاحبنا التي ركبت مع اخرين بالشاحنه وانطلقت بهم الى المجهول في بداية عمليات القصف ؟
بعد رحلة مضنية من مكان الى مكان ، وصل بهم المطاف اخيرا الى مبنى مدرسة قرب نهر الحسينيه الجاف ، عاشوا اياما يشربون من المياه الآسنه التي سبب الامراض لاطفالهم ، وتلقوا معاملة قاسية من الفلاحين القاطنين بجوار المدرسه، لم يعطوهم ماءا للشرب او طعاما ، كانوا يطردون اطفالهم بالعصي كلما قرعوا ابوابهم طلبا للمساعدة. وهنا يقارن صاحبنا بين معاملة اهل ديالى لسكان العاصمة بغداد الذين التجأ الكثير منهم اليها ابان قصف التحالف ، وكيف فتح اهل ديالى بيوتهم وصدورهم للاجئي بغداد واطعموهم مما يأكلون ، وبقوا مقيمين عندهم معززين مكرمين لحين انتهاء العمليات العسكريه ، وبين معاملة هؤلاء لبعضهم البعض وكيف يطرد الكربلائيون الكربلائيين ويعاملونهم بخسة طبع وجفاوة بهيميه ، ولم يكتفوا بذلك بل شكّل اهل الريف عصابات لسرقتهم .
الاخبار المتواترة من المدينة تقول ان اليزيديين يذبحون العائلات التي لم تغادر المدينه . اما المذبحة التي لا يعرف لها معنى ولا غاية فهي التي وقعت في المستشفى الحسيني الذي يقول صاحبنا ان رصاصة واحدة لم تطلق منه باتجاه الحرس الجمهوري ومع ذلك تم اقتحامه والاجهاز على الجرحى بل والطاقم الطبي ايضا ، ثم قام النظام بجلب الصحفيين من كل الصحف العراقية ليلتقطوا صورا للمذبحة تثبت للعالم افعال الخونة الغوغاء القادمين من خلف الحدود.

كرنفال جثث

مقالات ذات صلة

بعد وصول صاحبنا مع اخيه الاصغر الى منزله في الحي الحسيني شاهد ما يمكن تسميته بكرنفال الجثث ، جثث ملقاة في الشوارع والازقة والطرقات، امام المنزل تحت مولدات الكهرباء وفي البرك الآسنه ، جثث في كل مكان والكلاب السائبة تأكل لحومها بهدوء ، ومن يريد ان يدفن جثة احد من عائلته يجب ان يثبت للحاكم العسكري ان صاحب الجثة ليس غوغائيا او خائنا عبر الحدود .
لم تكن هذه نهاية (الشرده) بالنسبة له ولباقي الهاربين ، فما بين محطة واخرى ( بيته ثم بيت اخيه في حي سيف سعد ثم الصحراء مرة اخرى ) لم تعد الاقدام تقوى على حمل تلك الاجساد المنهكة ، في العراء شاهدوا صواريخ ارض ارض وهي تدك مباني كربلاء ، ووقفوا ينظرون الى ارتال الدبابات تمر من امامهم متجهة الى محافظة النجف من الرزازه لتلقن النجفيين دروسا القيت على الكربلائيين آنفا .
وبدأت حملة الاعتقالات ، اخرجوا كل الرجال والشباب من البيوت ، وصل عددهم الى نحو ثمانين شخصا وكان صاحبنا من بينهم ومعه شقيقاه، عبروا بهم شارعا على جانبيه سيارات وشاحنة كبيره تحمل جثثا متفحمة ، دمعت عيناه وهو يتذكر عائلته التي فرت بشاحنة الى حيث لا يدري .

حسين كامل :
الهدف النهائي للسائرين كان ملعب الادارة المحليه الرياضي ، خطوات تسرع بهم نحو حتوفهم ، امتار قليله بينهم وبين الجدار الطويل للملعب ، ومجموعة من ضباط الحرس الجمهوري ذوي الرتب العالية تقف متفرجة عليهم . وثمة رجل قصير القامة يقف امام الصف يعتمر غترة حمراء شاهده صاحبنا لكنه لم يصدق عينيه ، انه حسين كامل بلحمه وشحمه يقف متسلحا برشاش ومسدس وحربه .
تجاوز موكب المعتقلين مجموعة الضباط الكبار وحسين كامل ، واخيرا صفّت (القرابين) امام الجدار الطويل ، اخذ العسكر يفتشونه مرة اخرى ، كان التفتيش دقيقا وشاملا يرافقه الضرب والشتم ، يقف بين اخويه الاصغر والاكبر وصديقه النقيب المنشق على يمينه بجانب شقيقه وهناك شاب في السنة الاخيرة من كلية طب جامعة البصره حاملا حقيبة الادوات الطبيه بيده ، اصر على جلبها معه خوفا عليها من السرقه .
كانت الاشاعات منتشرة بين الكربلائيين بعد دخول الحرس الجمهوري بان حسين كامل يقوم باعدام الثوار بمسدسه لكن الاشاعات لم تؤكد اعدامه للمدنيين .
والواقفون على طول الجدار قسمان : متهم وبريء ، ثائر وغير ثائر ، والثوار صنفان : ثائر فرضت عليه الاحداث وركب الموجة من دون ان يقترف ذنبا ، وثائر قتل ونهب واعتدى ، والثوار القتلة صنفان عسكري يجب ان يحال الى المحاكم العسكرية ومدني يجب ان تهتم المحاكم المدنية بقضيته .
انهمك افراد الحرس الجمهوري بشد العصائب الخضراء حول عيون الواقفين ، ولكن لماذا اللون الاخضر ؟ أليس شعار ثورتهم ؟ فليكن اذن شعار موتهم .
وبدأ صاحبنا يسمع طقطقات تقترب منه ثم تتحول الى نغمات اكثر حده ، انها طلقات مسدس ، وقف شخص امام صاحبنا ، شم رائحة الصابون المنبعثة منه ، لابد ان حماما ساخنا انعشه لتوه تجاوز الشخص صاحبنا مضى يطقطق . وبعد قليل سمع اصوات محركات شاحنات وجنود يتصارخون ثم احس بقبضة قوية تأخذ بذراعه قادته الى احدى الشاحنات وبعد ان ازيلت الشرائط الخضراء عن اعينهم تجلى الموقف ، كان حسين كامل اذن يعد الواقفين على الجدار بين طلقة واخرى، يعد اربعة او خمسه ، يمنح الحياة لاربعة ويسلبها من الخامس .
الان بات بامكانه معرفة من سقط عند الجدار ومن بقي حيا ليتجرع الوانا جديدة من العذاب ، على مقربة منه يجلس صديقه النقيب ، واخوه الاصغر يجلس في مقدمة الشاحنه ، وعند الجدار كان الموت نصيب اخيه الاكبر ، وكان طالب الطب منكبا على حقيبته ودمه الطازج قد سال فوق سطح الحقيبه .
انطلقت الشاحنات في الصحراء متوجهة الى مقر فيلق الحرس الجمهوري ، اصبح مجموع الركاب الان اكثر من (500) شاب ورجل ، جلسوا في العراء لاكثر من عشر ساعات تخللها وجبات ضرب باعقاب البنادق وشتائم ، ثم نقلوا الى العاصمة بغداد حيث منطقة الرضوانيه او احشاء جهنم كما سماها صاحبنا .
لا يتسع المجال لذكر اساليب التعذيب التي مورست عليهم في تلك الغرف والقاعات ، باشراف صدام كامل شقيق حسين . قدر صاحبنا عدد المحتجزين في تلك القاعة بالف وخمسمائة لم يتبق منهم بعد ايام سوى ربعهم .
واخيرا وفي صبيحة اليوم الثامن من الاعتقال قضوها في احشاء جهنم تسلم كل واحد ممن تبقى منهم صك غفران الى الحياة ، منحوهم كتاب بتوقيع صدام كامل يقول :

( الى كافة السيطرات ، الى نقاط التفتيش :
قررت اللجنة المشتركة برئاسة الرائد صدام كامل ، إطلاق سراح فلان الفلاني ، بعد ان ثبت لها عدم اشتراكه في صفحة الغدر والخيانه …) .

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى