ضياع المطمح.. تبدّل الوجوه والافتئات على الشاعر .. المتنبي في رأس حيدر محمود

إبراهيم السواعير – هذه مادة صحفية، تتلمس درب النقد وتعتمد على ثقافة النقد، حاولت فيها أن أقف على بعض بعض معاني المتنبي، شاعر العربية الأكبر، في رأس الشاعر حيدر محمود.
فإن لم تجد فيها ما تضيفه إلى أرشيفك، فحسبك أن تؤمن بالشراكة ما بين الأدب والإعلام، وتشجّع على المزيد منها جمعاً، أو.. ربما جرأةً على النقد.
حين طلب قسم اللغة العربية في جامعة مؤتة قبل عامين أو ثلاثة من الدائرة الثقافية في “الرأي” أن تشارك في مؤتمر بعنوان “المتنبي: شاعر العربية الأكبر”، رُشّحت لإلقاء بحث، عادةً ما يندرج تحت البحوث التي تقرأ السيرة والبطولة والقومية والمطمح، ويُستلّ أغلبها أو كلّها من مرجع واحد أو اثنين، مع إضافات أو اجتهادات يلحّ عليها موعد “الغداء”، ويستنفد وقتَها مدرّسو المتنبي لطلبتهم في الجامعات الأردنية، وربما ضاعت البحوث بالحفاوة بالضيوف والدعوة لمؤتمر مقبل، هنا أو هناك.
قلت: لم لا أستفيد من أرشيف الإعلام الثقافي في “الرأي”، والصفحات الثقافية الزميلة، وأقرأ مثلما يقرأ “الناس”، وأفعل مثلما يفعلون.
فوجدت أنه يمكن أن نرصد ما صرّح به الشاعر حيدر محمود للصحافة، وبثّه حضوره في أمسياته متغنّياً بالمتنبي تارةً، شاكياً إليه الحال التي هي غير الحال؛ وتبدّل الوجوه، وضياع المطامح، والافتئات على الشاعر الذي هو غير الناس، الشاعر الذي كلّما ألَمّت به حادثة أو اعترضه ما يمنع مشواره عاد يلمّح ويكثر من التلميح حدّ التصريح؛ فكأن المتنبي الذي وجد شاعرنا نفسه مُستنسخاً عنه أو هو “جدّه”، وكثيراً ما تسمّى باسمه، هو القيمة المعيارية في طموحه ومثله وليله وخيله، ولكنّها القيمة التي يبدو أنها لا تتم أسباب الوصول إليها، أو كأنها هي القيمة التي يتلذذ حيدر محمود في تحميلها ما يحدث أو مناكفتها أو مهادنتها أو البوح لها أو موافقتها بالرؤية بعد أن ينشق الشاعر الحفيد عن الشاعر الجد ويحاول أن يخلق عالمه أو جوّه الخاص أو “ولايته” الخاصّة بتميّزه.
أحدث مُتَنَبٍّ لمحمود، هو أردوغان، الذي بيديه أشعل النار في جبال الجليدِ، الباردة إزاء كلّ هذا الغليان، وقد قال فيه، في خضمّ أحداث غزّة الأخيرة:
“يا حفيد السلطان عبد الحميد
بك قد عاد شامخاً من جديد
فأعدنا إلى الزمان الذي كان
عصيّاً على رياح اليهود
أحرف الضّاد كلّها بك تزهو
ويلاقيك أهلها بالورود
جمع الله شملنا وأقمنا
بيننا نحن كلّ تلك الحدود
قل لهم يا مؤذّن الفجر إن
الفجر آتٍ والنصر غير بعيد
قل لهم كلّنا فداء فلسطين
وكلّ الفرسان عبد الحميد
ستقام الصلاة في المسجد الأقصى
بمليار شاهدٍ وشهيد
يا أبا الطّيب الذي بيديه
أشعل النار في جبال الجليد
ستقوم الدنيا عليك يميناً
ويساراً بالوعد أو بالوعيد
ويكون القريب أكثر ظلماً
ويصير المريد غير مريد!”.
كما يمكن أن نتبيّن في النص الدلالات، والقيامة التي ستقوم على المتنبي الفارس، ويظلمه القريب قبل الغريب، وتتبدل الحال، ونحن مدركون لأبعاد ومرامي الشاعر السياسية، ولا حاجة لقراءة ما بين السطور.
حيدر محمود كثيراً ما كان يمهّد للصحافة أو لحضوره قبيل الأمسية باللازمة “إلى جدّي المتنبي؛ الذي قتله صديقاه: ليله وخيله”، وكان كثيراً ما يفيد متنبيّهُ بمعطياتٍ جيدة؛ من مثل إخباره جدّه بالولايات المتحدة التي حلّت محل العباسيين؛ فتغيّرت الشوارع، بما فيها شارعه في العراق.
هل من رابطٍ بين قول حيدر للصحافة: “الشعر لا يطعم خبزاً”، وتبنيه -على حدّ تعبير أحدهم- مطامح المتنبي في الولاية، أو على الأقل في الانتصاف والتظلّم؟!
الشاعر محمود كان في أمسياته يلعب على التقاسيم الشوقية في كرمة ابن هانئ، ويقيم عند عرار معتذراً، وكان، أيضاً، يعود إلى شاغل الدنيا والناس، ويعلن أنه أمير صعاليك هذا الزمان، يكره الرمز مع أنه يمكنه الاشتغال عليه، أو يتخذه على الأقل سبيلاً لمراوغة النص، وكان كثيراً ما يخرج من جلده العراري ليدخل في ضدّه.
محمود كان كثيراً ما يعطي زمنه الفرصة أو لنقل يقنط من الأمر- على إطلاق الأمر:
“واقضِ الذي أنتَ قاضٍ فيّ يا زمني
فقد تخصصتَ بي وحدي لتتبعني”.
لكنه سرعان ما يسخر؛ فمع أن الواقع مرٌّ إلا أنه -حيدر- أمرُّ:
“لكنْ: أشدُّ من الأنواء أشرعتي
والبحرُ أصغر من أن يحتوي سفني
ولستُ أخشَى الذي خبّأتَ من محن
واخشَ الذي أنا قد خبّأتُ من محني”.
هذا الحيدر، الشنفرى حيناً آخر، قال: “كان مستعجلاً حين مرّ؛ فلم يلتفت أحدٌ لليد النازفة، مدّها مرّةً لتصافح، لكنه ردّها عندما زعموا أنها خائفة”.
لكنّ محموداً الذي يلبس قناع المتنبي، ويوحي بما يفهمه المحيطون، وقد لا يتكلّفون عناءً في الوصول إلى الدال -أو المتغير الثابت والآخر المستقل، بتعبيرات الإحصائيين- يسقط بالمفاجأة، أو بالنتيجة التي كان يصرّ على تجاوزها أو تنحيتها قليلاً، مع أنه يعلم العاقبة ولكن يبدو أن لا مفر من المغامرة. وإذ تفجعه الأيام يدرك سذاجةً انطوى عليها مشروعه غير المحكك، فيدرك مغبة “الموثوقيّة”؛ ولنقرأ في “ليلة سقوط المواطن أحمد حسن الجعفي” التي قرأها في أكثر من أمسية. يمكن أن نربط بين القصيدة والحالات: السياسية والوظيفية في ذهن الشاعر:
“كم كنتَ غبيّاً
يا جُعفيُّ
وأغبى الناس هُمُ الشعراء
حتّى صاحبكَ الحلبيُّ
عليّ بن أبي الهيجاء
لم يحزن حين اغتالوكَ،
ولم تبكِ عليكَ الشهباء!
بل سهرت تلك الليلةَ،
حتى الفجرِ..
وغنّت..
رقصتْ..
شربت حدّ الإعياء!
ياما حذّرناك من الأوهامْ!
ياما قلنا لكَ:
لا تأمن للملعونِ أبوها
الأيّام!
لكنّك لا تسمع إلا صوتك أنتَ،
ولستَ ترى غيركَ،
في أحلام اليقظاتِ،
وفي يقظات الأحلام!
وعدتكَ الدّنيا،
بأبٍ من ذهبٍ،
لو أنكرتَ أباكَ..
فأنكرتَ جميع الآباء!
وتنكّرتَ لأجمل من في الكوفة،
سقّائيها البسطاء،
وحرّاثيها الفقراءِ،
وجعفيّيها المعتزين،
بأنك منهم،
والمنتظرين رجوعك
صبح مساء!
ما أتفهَ يا جعفيُّ طموحك..
ما أصغر ما يتمناهُ
أميرٌ مثلكَ
يملك ما لا يملكه الأمراء!
من كان سيعرف
-لولا شعرك-
بدراً
أو.. كافوراً،
أو.. حتى صاحبك ابن أبي الهيجاء!
خيرٌ من كلّ ولايات الدّنيا،
يا جعفيُّ
قصائدكَ العصماء
لكنْ:
خيرٌ منك، ومنها
ذاك الجُعفيُّ، الكوفيُّ، السّقاء!”.
الشاعر حيدر إذ يعاتب نفسه، ويصف فصيلته “الشعراء” بأنها الفصيلة الأشدّ غباءً، ويلمّح باغتياله، وأنّ عليّاً -علي بن أبي الهيجاء- لم يحزن لصاحبه ولم تبك عليه الشهباء، بل كان الشامتون يغنّون ويضحكون، مع أنه ركب رأسه وسار وراء “الأوهام”، وباع الجميع فلم يظفر بما يرجوه، أو ضاع ما يرجوه أو تقطّعت به الأسباب، والدلالات واضحة، والمقاصد بيّنة، وتكون النهاية الحزينة حين يكتشف الطموح التّافه، وأنه لم يجز كما ينبغي له أن يُجزى أو يكافأ.
الواقع أنّ هذا يستلزم لمن يدرس حيدراً معرفةً بمُحِيْطَيْه: السياسي والوظيفي؛ فها هو في قصيدةٍ أخرى يشكو انتشار الإشاعات، وتقارير الحسّاد المغرضين، ويسأل عن هذه الظاهرة هل كان جدّه المتنبي يعانيها، وفي الواقع فإنه كان يشير إلى نفسه؛ فهو شاغل الناس حيّاً وميتاً، ولعل الموت لديه هو موت الطموح أو توقّفه حيناً؛ ولكنه يعزّيه دائماً أن الشعر سلّمه مفتاحه الذهبي وأمّره.
في قصيدة “الضّد” كان ثمة بكائية لطيفة؛ فقد “قُضي الأمرُ، وانتهى كلُّ شيءٍ.. فوداعاً.. يا كلّ شيءٍ وداعا! كان وهماً كلّ الذي مرّ من عمري وكلّ السنين، كانت خداعا!”. وهكذا يحاور الشاعر ضدّه؛ فعيونه ليست عيونه ووجهه ألبسوه على القناع قناعا. هكذا يقول: “فعيوني ليست عيوني، ووجهي ألبسوه على القناع قناعا، وفؤادي لا نبض فيه، وما كان فؤادي إلا عليّ شجاعا! حين يشتاق كان يفتعل النارَ افتعالاً، ويدّعي الالتياعا! فيه ثلجُ الدنيا وكلّ صقيع الأرض منه، والجمر كان اختراعا”.
الشاعر محمود صرّح للصحافة في مقابلة، في سياق مدى تأثّره بالمتنبي طامحاً إلى الولاية؛ ورجا قارئيه أن يعلموا أن المتنبي لم يكن يطلب الولاية بمعناها المتعارف عليه اليوم؛ وهو أن يصبح وزيراً أو مديراً أو وكيل وزارة؛ إنها أمرٌ أبعد بكثير مما نظن -والقول لمحمود- فالمتنبي أكبر من مجرد شاعرٍ قال كلمته ومضى.
قد تبدو هذه اللقطات عجلى، يقبسها صاحبها من كتابات الصحف، واستماعه بين الصفوف للشاعر، ولكنّي من المؤمنين بأنّ النقد في طابعه العام هو ثقافة رافدة، يشترك فيه المثقف والأكاديمي، والدّارس المتخصص، وليس صعباً أن نردّ اللفظة عند محمود إلى فضائها الواسع، وليس عسيراً أن ندرس حياة الشاعر واشتغاله في الإعلام والوزارة والسفارة، وليس من المتعذر أن نقف على فضفضاته واعتذارياته واعتكافه اللحظي، لنربط كل هذا أو بعض هذا بذاك.
على أقل تقدير يمكن أن نردّ إعجاب المتنبي الحفيد بالمتنبي الجد إلى ظاهرة: فصاحة اللسان وغلبة العجمة وانتشار الشعراء فجأةً وركاكة اللفظ وضعف الكلمة، ويمكن -إن نحن أردنا- أن نحمّل الشاعر محموداً ما كان برأس جدّه أو ما مات ولم يحققه أو يمكن أن نقف على النموذج المثال الذي لا يجاريه مثال عند حيدر، المتنبي، المتغرّب، الكبير على الأحقاد.
الواقع أنّ حيدر محمود تمكّن من قناع المتنبي، وحمّله كثيراً، وادّخره، واستفاد من الظواهر المتشابهة في العصرينِ، واستطاع بامتياز أن يحشد مثقفين يفهمونه وإعلاميين يحاورونه وأكاديميين يتعصبون له في تعصّبه للقديم؛ خصوصاً وقد صرّح أكثر من أكاديمي للصحف بأنّه “شاعرٌ يتسم شعره بالبساطة الممتنعة على كثيرين، ظلّ وفياً للشعر في وجه الحداثة الغامضة الأشبه بالطلسم، وظلّ يلبس قناع الشخصيات التاريخية لينقد ما يحيط، وهو شاعر وطني حد التصوف، قومي حد الحلول، إنساني حد التسامي، وإنسانيته تبدأ من دائرة تعلقه بوطنه الصغير فلسطين، والأردن، ثم بوطنه الكبير، وأمته التي جار عليها الزمن وتفرقت”. وهو -كما قال الأكاديميون للصحافة- “يظلّ الوجه المشاكس المتمرد، الذي يعد امتداداً للشنفرى وتأبط شراً والشعراء الصعاليك المتمردين على القوانين والأعراف القبلية، المقدسين حريتهم، فهو امتداد لأبي الطيب المتنبي في أنفته وذاتيته، وعرار (مصطفى وهبي التل) في جرأته”.
وهو الشاعر الذي قدم شعراً سياسياً رائعاً بمزجه الوطن بالإنسان بالسياسة بالحب بالذات، بأسلوب لا يخلو من مراوغة وترميز وإشارات ذكية، وبصورة تنم عن جرأة وقدرة فنية عالية، وهو الشاعر الذي تشرّب تاريخ أمته وروح الشعراء القدامى، فصاغ من نسغ ذلك التراث أعذب الشعر وأعنفه وأجمله، وأطل علينا بقصائد آسرة لغة وأسلوبا ومعنى وصورة وبيانا، جسدت لنا رقة المحب، وسحر العاشق، وعنفوان النمر. فهو في كل ما نظم يظلّ شاعراً مبدعاً، ساحراً يملك علينا نفوسنا، ويوقظ فينا الأسرار النائمة، ويجعلنا نحس بالحياة والناس والوجود إحساساً جديدا. وهو نفسه حيدر محمود صرّح في أكثر من لقاء إعلامي أنّ المتنبي عنده يمكن أن يحمل قوميةً يؤمن بها؛ فالثقافة العربية لا تختلف على الإطلاق أنّ المتنبي شاعر العرب.
من مجموعته “في البدء كان النهر”، قال حيدر، تاركاً التأويل شهياً:
“الماءُ في فمي..
والقيد في اليدين
فلست قادراً على الكلام
ولست قادراً على السلام
.. السيف -حين يغضبُ السياف-
ذو حدين!
فتحتُ في صدري كوتين – شارعين
للذهاب.. والإياب
لكنني -حين عبرت داخلي-
لم أحتمل رائحة الميت – داخلي
وقّعتُ.. مرّ ألفُ عام
رجعتُ.. لم أكن أنا.. أنا..
كان على بوابة المسرح حاجبان
يُشهران خنجرين!
ولم يكن ليَ الخيارُ: صرت ذا وجهين!
وصفّق المشاهدون والممثلون
حين رأوني أتقنُ الدورَ:
على الذي يريدُ.. أن يكون..
(يقول شيخهُم)
أن يحني القامة مرتين!
إلى الأمام مرة
ومرة.. إلى الوراء
والأغبياءُ الأغبياء
هم الذين يرفضون!


كان على البديل أن يستعجل الليلةَ،
كي أغيب ساعة، عن العيون!
ألبس فيها وجهي الآخر، والمعطف،
والقفاز، الحذاء…
وكل أشياء الرواية البلهاء!
لكنه لم يأتِ .. مرَّ نصف الليل..
والمشاهدون قاعدون
(…)
الماءُ في فمي
والقيد في اليدين
وقدري المكتوب أن أمثِّل الدورين!”.

أ.ر

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى