الماضوية والدين / د . هاشم غرايبة

الماضوية والدين
مقال الإثنين: 20 / 3 / 2017 .
كان ثمة رجل يلبس دشداشة ويعتمر كوفية، يجهد نفسه لركوب دراجة، وكان إن أسدل الثوب على ساقيه اشتبك بسلسلة الدراجة، وإن رفعه بان منه ما يحرجه، وإن سار بسرعة طارت كوفيته فعض عليها بنواجذه.
رأيت حالة هذا الرجل تماثل من يصر على التمسك بزي من استعملوه كان يخدم واقعهم ولم يكونوا يعلمون بما سيستجد من اختراعات، فجاء من بعدهم من يعتقدون أن التمسك به يماثل في أهميته اتباع منهجهم الفكري، فإصرار ذلك الشخص على استعمال الدراجة مع عدم التخلي عن الزي الذي لا يناسب ذلك الحال يمثل من لا يستطيعون التمييز بين الضرورة والمصلحة.
الأصولية تعني التمسك بالأصول القديمة، وهي أمر محمود ما لم تتخذ طابع الجمود ومقاومة التطور ومستجدات الحاضر، ولعل جميع الأمم تمتلك ما تعتز به من تراث الأجداد، فالإغريق الذين كانوا فيما سلف يسيطرون على كل البحار هم أجداد اليونانيين المحصورون الآن في شبه جزيرتهم مكبلين بالديون، وأما الرومان الذين حكموا العالم عدة قرون فهم أجداد الإيطاليين الحاليين الذين يجاهدون للبقاء في مستوى يماثل بقية الأوروبيين. رغم ذلك فجميعهم يعيشون الواقع كما هو وليس على ذكريات المجد الآفل.
يبدو أن أمتنا هي الوحيدة التي تقتات من أحلام اليقظة، وهي تفعل ذلك باعتقادها أنه حافز لاستعادة الماضي التليد، ليتها كانت تستحضر العوامل ذاتها التي أوصلتها لتلك المنزلة، لكنها تسلك سبيلاً خاطئاً هو الأسلوب الخطابي العاطفي المفرغ من المضمون .. أسلوب: أمجاد يا عرب أمجاد!.
لكن هنالك فارقا جوهريا بيننا وبينهم في المحتوى الحضاري، فحضارتهم كانت استعلائية وقودها التفوق العسكري، بينما حضارتنا إنسانية هادفة الى تحرير الإنسان من العبودية للإنسان والتساوي بينهم في العبودية جميعا لخالق الإنسان.
لذا فالجوهر المختلف يستوجب أسلوبا مختلفا يمكن استنباطه من فهم مايلي:
1 – منبع المنهج إلهي فصلاحيته للبشر مقطوع بها، كونه صادر عن معرفة دقيقة باحتياجاتهم ومتطلباتهم، بعكس المنهج البشري الذي يخضع للتجريب والظرفية والنسبية.
2 – كون الدين قد بدأ برسالات سماوية إصلاحية إلى أن اكتمل بالمنهج المتكامل بآخر رسالة، فذلك يعني أنه أصبح نهائيا فلا تعديل قادم عليه، لذا فهو يحتمل كل مستجدات الزمن القادم، أي يكتنز بداخله كل ما سيتطور بما يعني أن علينا البحث عن حلول المشاكل الحادثة بين آيات الكتاب، وبفهم مستحدث.
وعليه فيجب عدم الوقوف عند حدود فهم أهل زمان مضى لإسقاطه على زمان حاضر، لأنه ليس لديهم علم بالغيب لظروف قادم الأزمان.
3 – الذي يحوي غيب الماضي والمستقبل هو كتاب الله، لأن فيه تبيان كل شيء”مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء”، ومن آياته يمكن لأولي العلم استنباط أحكام كل ما يستجد على مر الزمان.
نستخلص ان الدين ليس ماضٍ مضى وانتهى، ولا هو حضارة سادت زمنا ثم بادت، وإنما أحكام وتشريعات نزلت فيما مضى لكنها دائمة الحيوية، لأن مصدرها القرآن الثابت الوحيد في الكون الذي لا ينقحه تأليف ولا يناله تحريف.

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى